فى ذكرى الدكتور حسين مؤنس

تمر ذكري الدكتور حسين مؤنس كالنسيم‏,‏ هادئة ومنعشة للروح‏,‏ تماما كما كان هو في حياته‏,‏ وكما كانت كتاباته وأفكاره‏..‏

والدكتور حسين مؤنس شخصية نادرة في عمق ثقافتها‏,‏ وأصالة تفكيرها‏,‏ وحبها لكل ما هو مصري وكل ما هو عربي وكل ما هو إسلامي‏..‏ رغم أنه تعلم وعاش في أوروبا طويلا ولم يمنعه حرصه علي الحياد العلمي والموضوعية والنزاهة العلمية كأستاذ جامعي من أن يترك لمشاعره العنان حين يتعامل مع الناس والمجتمع بروح الفنان ونزعة الفيلسوف‏..‏ وهو بذلك من القلة القليلة من أساتذة الجيل الماضي الذين استطاعوا الجمع بين روح العلم وروح الفن بعبقرية تثير الدهشة‏,‏ دون أن تؤثر مشاعرهم الوطنية وانحيازاتهم لمجتمعهم في حرصهم الشديد علي التزام المنهج العلمي في أبحاثهم الأكاديمية‏..‏ ولذلك فإن شخصية الدكتور حسين مؤنس كباحث وأستاذ تختلف عن شخصيته ككاتب مقال سياسي واجتماعي أسبوعي في مجلة أكتوبر ظل منتظما في كتابته ما يقرب من عشرين عاما‏,‏ ومازلت معجبا بإصراره العنيد علي أداء ما كان يري أنه الواجب والالتزام تجاه المجتمع والتاريخ والرأي‏,‏ فظل يكتب وهو يصارع المرض والشيخوخة حتي آخر يوم في حياته‏.‏

بل إن مجلة أكتوبر ظلت تنشر بعد وفاته مقالات كان قد أعدها وهو يصارع الموت‏,‏ وكان يشدني إليه ما ألمسه فيه من قوة داخلية تجعله قادرا علي التغلب علي الأمراض والشيخوخة‏..‏ وظل حتي النهاية كما كان طوال سني حياته مشغولا بأبحاثه ومؤلفاته ومؤتمراته وأسفاره‏,‏ ومع كل هذا الانشغال كان يجد وقتا لكتابة مقالاته الصحفية لكي يتواصل مع المثقفين والقراء ولا تنقطع صلته بنبض الشارع الثقافي والسياسي أبدا‏..‏ ومازلت مندهشا من قدرته علي الاستمرار في الانشغال بأبحاثه وتأليف كتبه العلمية في التاريخ والحضارة‏,‏ غارقا في المخطوطات القديمة‏,‏ ويحتفظ في الوقت نفسه بكل هذه اليقظة الفكرية‏,‏ والحساسية الاجتماعية التي تجعله كالرادار يلتقط ما في المجتمع من ظواهر ويخضعها للتحليل العلمي الاجتماعي السياسي ثم يعبر عنها بتلقائية وبساطة وكأنه يتحدث إلي قرائه حديث الأصدقاء‏.‏

هو بلاشك عالم وفنان‏..‏ هو عالم مدقق حين يتفرغ لدراساته حريص علي تحليل القضايا بموضوعية شديدة وعقل بارد ويكاد يكون منقطع الصلة بالحاضر تقريبا‏,‏ ولا يهمه من يرضي ومن يغضب من الحقيقة‏..‏ ولكن الجانب الآخر منه فنان وأديب‏,‏ غارق في هموم المجتمع‏,‏ ومعايش للبسطاء من الناس في الحارة والقرية والمدينة‏,‏ وحريص علي أن يجعل قلمه صوتا للحق وصدي للحقيقة لا يحيد عنهما‏,‏ ولا يخضع لاعتبارات المجاملة أو النفاق الاجتماعي والسياسي التي غرق في بحارها كثيرون غيره‏.‏

وفي مناخ الحرية الذي تعيشه الصحافة المصرية‏,‏ أطلق الدكتور حسين مؤنس لقلمه العنان في السنوات الأخيرة‏,‏ فلم يعد يحاذر‏,‏ أو يكتفي بالإشارة والتلميح‏,‏ بل كان صريحا إلي درجة جارحة في بعض الأحيان‏,‏ وناقدا إلي درجة الهجوم‏,‏ وكاشفا ما في المجتمع من مشكلات وعيوب دون مواربة‏,‏ ثم امتدت صراحته إلي الحديث عن نفسه فقدم اعترافات وذكريات عارية لم يجرؤ غيره علي الاعتراف بها حتي عن خصوصياته وأسراره الشخصية‏..‏ وكان بين الحين والآخر يسألني‏:‏ هل أسبب لك إحراجا حين تنشر مقالاتي وهي بهذه الصراحة‏,‏ فكنت أقول له‏:‏ يا أستاذنا هذا عصر الحرية والكلمة الصريحة‏..‏ إذا لم تقل كلمتك بكل صراحة الآن فمتي تقولها‏..‏ ولعنة الله علي من يكتم كلمة الحق‏..!‏

وحين رحل الدكتور حسين مؤنس ترك ثروة فكرية وأدبية‏,‏ تفرغت لجمعها بعد رحيله ابنته البارة الدكتورة مني حسين مؤنس أستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة‏,‏ وفيها من صفاته الكثير‏..‏ صفات المحارب بصلابة وعناد من أجل ما يعتقد أنه الحق‏,‏ والزهد في الأضواء والشهرة‏,‏ فقامت بجمع هذه المقالات في ستة كتب صدرت أخيرا في مجالات وعناوين مختلفة مثل‏:‏ مصر والعالم العربي والعرب في بحار الهموم والأخطار وحرفة النجاح ومصر والحضارة وحكاية سوق الخميس وهكذا‏..‏ وفيها ينتقل من الحديث عن خلاصة أبحاثه في التاريخ والحضارة الإسلامية‏,‏ وفي تحليل الواقع العالمي المعاصر بما فيه من تناقضات الفكر والسياسة وتغيرات في موازين القوي أشبه بمراحل صمود وانهيار القوي العظمي في مراحل التاريخ السابقة‏,‏ ويستشرف المستقبل لبلده ووطنه العربي الكبير وللعالم من خلال رؤيته الشاملة التي تكونت لديه بعد عشرات من السنين في البحث والتأمل‏..‏ وينتقل بين أحاديث غاية في الجدية والعمق إلي أحاديث أخري فيها السخرية والفكاهة ولكنها مليئة بالحكمة وتعكس فلسفته الخاصة التي تبلورت من حصيلة المعاناة العقلية والروحية والحياتية‏.‏

وتعكس هذه الكتب الأخيرة ميدان المعركة الذي اختاره الدكتور حسين مؤنس في أخريات أيامه‏,‏ فقد اختار أن يعلن الحرب علي الجهل بكل صوره ومظاهره‏..‏ ليس الجهل بالقراءة والكتابة فقط‏..‏ ولكن الجهل بين المتعلمين بما يجري في العالم‏..‏ وبمتابعة روح العصر‏..‏ وبالنزعة الانسحابية بالحياة في الماضي دون أن يفهموا أن الماضي مهما تكن عظمته لا يمكن أن يغني عن معايشة الحاضر بكل ما فيه‏,‏ والعمل للمستقبل بكل وعوده‏..‏ وهو يتحدث عن الجهل المركب علي نحو مختلف عن توفيق الحكيم‏..‏ كان توفيق الحكيم يري أن الجهل البسيط أن يكون الإنسان جاهلا ويعلم أنه جاهل‏,‏ فلديه علي الأقل علم بأنه جاهل‏,‏ والجهل المركب أن يكون الإنسان جاهلا ولا يعلم أنه جاهل‏,‏ فيكون قد أضاف إلي جهله جهلا آخر وأغلق أمام نفسه باب العلم‏..‏ أما الدكتور حسين مؤنس فيري أن الجهل العادي هو خلو الذهن من المعلومات الصحيحة‏,‏ أما الجهل المركب فليس خلو العقل من المعلومات بل امتلاؤه بمعلومات خاطئة ومضللة‏,‏ ولكي يتخلص هذا الإنسان من جهله هناك صعوبات عديدة‏,‏ فعليك أن تفرغ عقله أولا مما فيه وتنظفه من هذه البلاوي والخرافات التي تملؤه‏,‏ ومن أمثال هذه البلاوي الاستسلام لما تأتي به الأحداث دون سعي لصنع هذه الأحداث‏,‏ والإيمان بأن العلم لا قيمة له‏,‏ وأن العلاج بالطب لا ينفع‏,‏ والوصفات البلدية هي الطب‏,‏ والاستهانة بالمخاطر حتي تجد الواحد ينزل في ماء الترعة ويقول لك‏:‏ هل تصدق ما يقولونه عن البلهارسيا تعال ولا يهمك وما كتب عليك لابد أن يكون إلي أن تقتله البلهارسيا ولا يتعظ أمثاله بعد ذلك‏.‏

وهذا الطراز من الجهل المركب الشرير يرثه أولئك الناس من بيوتهم‏,‏ ويؤكده في أذهانهم من يدعون أنهم شيوخ وهم مشعوذون بل هم أجهل الناس‏,‏ ولكنهم يسيطرون علي أذهان الجهلة بالخرافات أو بإضفاء هالة من القداسة لكل ما ينتمي إلي الماضي حتي ولو كان كذبا أو خطأ أو مدسوسا‏..‏ ويختارون من الأمثال الشعبية ما يعكس هذا الاتجاه‏..‏ وتلك هي مشكلة الجهل الكبري في مصر والعالم العربي‏..‏ إنه جهل مركب معقد‏..‏ جهل إيجابي فعال ومؤثر وضار في الوقت نفسه‏..‏ لأنه ينشئ أجيالا من الجاهلين وبهذا الجهل يصبحون هم الفقراء‏..‏ بل إن الجهل يجعلهم فقراء أبديين‏..‏

وليست هناك بداية للإصلاح إلا بتغيير حالة الجهل المركب لكي يمكن القضاء علي الفقر‏..‏ والتخلف‏..‏ والسلبية‏..‏ والرجعية‏..‏ وكل الأمراض الاجتماعية التي نشكو منها‏..‏

وفي رأيي أن الدكتور حسين مؤنس لم ينل حقه من الدراسة والتكريم حتي الآن دون ذكر الأسباب‏..!


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف