أخلاقيات النقد و الحوار

لآن‏,‏ وبعد أن هدأت عاصفة النقد الهوجاء لمشروع توشكي‏,‏ والتي لم تكن قائمة علي معلومات أو حقائق‏,‏ واكتفت بالاثارة والتشكيك‏,‏ فقد عاد التوازن والاتزان الي تفكير الذين يتحدثون عن هذا المشروع القومي الاستراتيجي‏,‏ وأصبح من الممكن الحوار معهم بعقلانية وهدوء لتكوين رأي عام ناضج وواع حول المشروع‏.‏

ولأن مشروع توشكي ليس مجرد استصلاح أرض في الصحراء‏,‏ فإنه يحتاج أولا الي أن يوضع في حجمه الحقيقي‏,‏ فهو مشروع استراتيجي بالمعني الدقيق لهذا الوصف‏,‏ أي أنه مشروع يؤثر في الأمن القومي‏,‏ وفي القوة الشاملة للدولة‏,‏ ويؤدي الي تغييرات اجتماعية واقتصادية واسعة المدي في المجتمع المصري‏,‏ ويرتبط بحياة ومستقبل الاجيال القادمة‏,‏ ولذلك فإن مثل هذا المشروع يجب أولا أن تكون مناقشته بالجدية التي تتناسب مع خطورته‏,‏ وان يكون الخلاف والاتفاق فيه قائما علي دراسة وحقائق وليس علي مجرد المشاعر والانطباعات‏..‏ ويجب ـ ثانيا ـ ألا تكون المناقشة مبسطة الي حد السطحية باختزال الرأي فيه علي انه خير مطلق أو شر مطلق‏,‏ ولكن الدقة تقتضي النظر الي ما فيه من فوائد وما ينطوي عليه من صعوبات يمكن التغلب عليها‏,‏ وليس هناك مشروع كبير يتم تنفيذه بسهولة دون صعوبات وتضحيات‏..‏

المهم قبل الدفاع أو الهجوم هو الأمانة والالتزام الأخلاقي الوطني في الحوار‏,‏ فليس مقبولا ـ مثلا ـ أن تظل الحملة علي هذا المشروع علي أساس انه بديل لمشروع تنمية سيناء‏,‏ والجميع يعلمون ان ذلك غير صحيح‏,‏ وان مشروع تعمير واستصلاح اراضي سيناء يسير وفق الخطة الموضوعة له منذ سنوات وعلي أرض سيناء الآن مشروعات تمت ومشروعات يجري العمل فيها‏..‏ دون ابطاء‏..‏ كذلك ليس من الصواب قياس مشروع قومي كبير مثل توشكي‏,‏ يهدف الي انشاء منطقة حضارية وسكانية وزراعية وعمرانية تشمل مئات الآلاف من الأفدنة‏..‏ ليس من الصواب الحكم عليه بالعائد الاقتصادي الذي سيحققه علي المدي القصير بالنسبة للتكلفة الكبيرة‏,‏ فمثل هذه المشروعات ـ لدي العقلاء ـ ينظر الي عائدها علي المدي الطويل‏..‏ فالسد العالي مثلا كانت تكلفته عالية بالقياس الي الوقت الذي اقيم فيه ولكنه قدم للاقتصاد القومي منذ انشائه الي اليوم ما يساوي هذه التكلفة ويزيد ومازال يعطي ويفيد لأجيال قادمة‏..‏ والسد العالي الذي كانت تكلفته في حدود مائة مليون جنيه وكان هذا الرقم معجزة في ظروف مصر في الستينات أصبح الآن أقل من تكلفة انشاء الطريق الدائري أو مطار أو فندق‏..‏

ومن المفيد لمن يريد أن يتحدث عن مشروع توشكي أن يقرأ دراسة صغيرة مبسطة للدكتور السيد عليوة والدكتور السيد عمر بعنوان صنع القرار الاستراتيجي القومي‏:‏ مشروع توشكي ليعرف أولا ان صنع هذا القرار الاستراتيجي القومي تم بعد عملية اختيار دقيقة بين البدائل لأنه أولا مؤثر في تحسين نوعية الحياة في مصر في الأجل الطويل‏,‏ وهذا يدل علي ان القيادة السياسية لا تفكر فقط في التحسين السريع القصير المدي الذي تظهر آثاره فورا ولكن نظرها يمتد الي المستقبل البعيد والي الأجيال المقبلة وتسعي الي توفير لقمة العيش وفرصة العمل ومساحة الأرض وفرصة الحياة الكريمة لها‏..‏

ومن يدرس كيفية صنع القرار الاستراتيجي لمشروع توشكي سوف يعرف انه جاء نتيجة دراسات فنية واقتصادية شاركت فيها جامعات ومراكز بحوث وخبراء وعلماء‏,‏ وان كان المفروض ان تتاح للنخبة من المثقفين وقادة الأحزاب ورجال الاعلام والفكر ان يشاركوا أيضا ويطلعوا علي تفاصيل ما تم‏..‏ والواقع ان مرحلة التنفيذ كانت آخر مراحل صنع القرار‏,‏ بعد التأكد من ان هذا المشروع هو البديل الأفضل لاقامة مجتمع جديد‏,‏ وان التكامل سيتم بشكل فعال بين دور الدولة التي ستقوم بدور المنظم وتنشيء البنية الأساسية بتوفير مياه الري‏,‏ والطرق‏,‏ والتليفونات‏,‏ والكهرباء وغير ذلك‏..‏ وقد تأكدت من استعداد القطاع الخاص للعمل بعد ذلك في المشروع كمنفذ للسياسة العامة‏..‏

ومن يدرس خطوات صنع القرار الاستراتيجي في توشكي يجد أن هذا القرار لم يتم اتخاذه إلا بعد دراسة الظروف الدولية وتحديد ما سيلقاه المشروع من الاشقاء والاصدقاء ومن المنافسين والخصوم‏..‏ كما ان القرار أخذ في اعتباره الآثار الايجابية والسلبية للمشروع كما هو الحال في كل قرار استراتيجي‏..‏ وكمثال لذلك فإن قرار اختصار سنة من التعليم الابتدائي أدي الي هز النظام التعليمي كله‏,‏ وانشاء كوبري فوق قناة السويس ستكون له آثار استراتيجية مهمة‏,‏ ومشروع خصخصة الاصول القومية والقطاعات الاستراتيجية ستكون له أيضا آثاره وهكذا‏,‏ والآثار المترتبة علي مشروع توشكي مدروسة ومحسوبة سواء كانت آثارا اقتصادية‏,‏ أو سياسية‏,‏ أو اجتماعية وثقافية مما سيحققه من تغيير شكل البيئة في جنوب مصر وامتداد تأثيره الي محافظات الصعيد القريبة منه وعلي المناطق المحيطة ببحيرة ناصر‏.‏

وقرار استراتيجي قومي مثل مشروع توشكي لم يتم اتخاذه إلا بعد التأكد من انه يحقق مصلحة قطاعات واسعة من المواطنين‏,‏ وبعد ان شارك فيه الخبراء في كل التخصصات‏,‏ وتأكد انه مشروع يحقق القوة الشاملة لمصر‏,‏ ويدعم الأمن القومي‏,‏ ويحقق قدرة المجتمع المصري علي البقاء في ظل العولمة والتحولات الاقليمية‏,‏ والنمو السكاني‏,‏ وهذه الأهداف الكبري تتحقق بمشروع توشكي الذي يتزامن تنفيذه مع مشروعات عمرانية أخري في سيناء والعوينات وغيرهما‏,‏ ليس في مجال الزراعة وحدها بل في مجالات الصناعة والمدن الجديدة‏,‏ وفي مجال العلوم والتكنولوجيا في مدينة مبارك العلمية وفي مجال التعليم بادخال علوم العصر وتكنولوجيا التعليم الحديثة‏,‏ وفي مجال الاقتصاد وغير ذلك من المجالات‏..‏ وبهذا الاتساع والشمول والتكامل يمكن القول بأن ما يحدث في مصر الآن هو نهضة شاملة وان مشروع توشكي جزء كبير من هذا المشروع الأكبر لاعادة بناء مصر‏.‏

ومن حق الذين يعملون في هذه المشروعات في الصحاري وتحت الشمس وفي ظروف البدايات الصعبة أن يشعروا بالأسي وهم يتابعون المغالطات التي تنشر في بعض صحف المعارضة لتشويه صورة كفاحهم وتضحياتهم‏,‏ بادعاء ان مشروع توشكي يعني توقف مشروع تعمير سيناء وهذا غير صحيح‏..‏ أو توقف مشروع تنمية بحيرة ناصر وهذا أيضا غير صحيح لان تنمية بحيرة ناصر جزء من مشروع توشكي‏..‏ ووصلت المغالطات الي حد قول صحيفة انه لا داعي لانفاق هذه الأموال لتخفيف التكدس في وادي النيل‏,‏ فاليابان فيها تكدس وليس فيها مشكلة نتيجة لذلك‏..‏ أو القول بأنه يجب التوقف عن التنمية الزراعية والاقتصار علي التنمية الصناعية‏..‏ ووصلت المغالطات الي حد تنظيم حملة صحفية تحت عنوان جريمة تهدد ببتر نصف النيل ونصف الدلتا ومحمور الحملة انها تبشر بالخراب نتيجة ندرة مياه الفيضان‏,‏ وجاءت الحملة في العام الذي شهد أعلي معدل فيضان منذ انشاء السد العالي‏.‏

فقط‏,‏ نحتاج الي الضمير الوطني‏,‏ والتزام الحد الأدني من أخلاقيات الخلاف عند تناول مشروعات تمس المستقبل والمصير‏,‏ وبعد ذلك فكل شيء قابل للنقد والحوار‏.


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف