آمال تتجدد فى اللحاق بالعصر
لكل عام معارك ندخلها بإرادتنا أو تفرض علينا, وتقضي الحكمة أن نحدد هذه المعارك, ليكون لنا زمام المبادرة في اختيار ميدانها, وتوقيت بدايتها, وإعداد الاسلحة اللازمة للنصر فيها.. ومن حسن حظنا ان معارك عام99 معارك للبناء وتجديد أساليب العمل في أجهزة الدولة, وفتح الطريق أمام قطار التنمية.. وليست التنمية الاقتصادية وحدها هي التي ستؤهلنا للقرن الحادي والعشرين, ولكنها مرتبطة بالتنمية الاجتماعية, والسياسية, وغياب أحد اضلاع هذا المثلث سيجعل التنمية مختلة وغير متكاملة.
ولان ضيعنا سنوات غالية في الدائرة المفرغة للكلام وأحلام اليقظة عن ضرورة تضييق الفجوة العلمية بيننا وبين الدول المتقدمة, وعن الاستعداد والبدء والعمل لوضع السياسة العلمية, وبقي الحال علي ماهو عليه إلي أن بدأت الحكومة منذ أيام في الإعداد لتشكيل لجنة وزارية عليا لتحمل هذه المسئولية.
والأزمة التي تنتظرنا مع كثير من الدول هي أنه لم يبق إلا سنوات قليلة وتطبق اتفاقية الملكية الفكرية وتحتكر الدول الكبري مفاتيح وبوابات وامتيازات التقدم العلمي والتكنولوجي, فتعطي وتمنع براءات الإختراع ومتيازات نقل التكنولوجيا وفقا للشروط والقيود التي ستضعها, ولابد أن نتوقع أن هذه الشروط ستكون لصالح الدول المتقدمة ولاستنزاف موارد الدول النامية, وتحويلها الي مجرد سوق للتكنولوجيا المنتجة في الدول المتقدمة, وفرض قيود علي حصول الدول النامية علي ماتحتاجه لبناء قاعدة للتقدم العلمي والتكنولوجي.. وحتي قبل أن يبدأ تطبيق اتفاقيات حماية الملكية الفكرية فإن الدول المتقدمة تفرض الآن قيودا شديدة علي نقل التكنولوجيا ولديها تشريعات تفرض الحصول علي موافقة الحكومات علي عقود التكنولوجيا قبل إبرامها.. أي أن نقل التكنولوجيا أصبح الآن قرارا سياسيا وحكم علي دول معينة بالبقاء في دائرة التخلف.. وهذه القيود سوف تزداد مع السنوات القادمة, ولذلك فإن الاعتماد علي الخارج في بناء القاعدة العلمية والتكنولوجية أصبح موضع شك, والعتماد علي الذات أصبح هو البديل الوحيد وبأقصي قدر ممكن.. وهناك دول كثيرة نجحت في تخطي العقبات والقيود وأقامت لنفسها قاعدة علمية وتكنولوجية جيدة.. ودول آسيا وبخاصة الهند والصين تقدم نماذج لما يمكن أن تحققه دول من العالم الثالث, لديها مشاكل الفقر والتخلف, ولكنها أدركت مبكرا أن التقدم الحقيقي ليس في استيراد أحدث مافي العصر من تكنولوجيا, ولكن في تكوين جيش من العلماء ومعامل ومراكز بحث في إطار سياسة علمية واضحة تساندها الدولة بكل ماتملك, وتعمل بجدية, بعيدا عن صخب الإعلام, ومبالفاته..
والذي دعا الحكومة أخيرا الي تشكيل لجنة وزارية عليا للبحث العلمي والتكنولوجيا أن سنوات كثيرة مرت دون ن تبدأ الخطوة الأولي, وهي إعداد سياسة.. أو استراتيجية.. للبحث العلمي والتكنولوجيا.. ولم يتحقق ماقيل كثيرا عن حشد القدرات الموجودة حاليا وحل مشكلة التنسيق الغائب بين مراكز البحث والجامعات والصناعة, وحسن الإستفادة مما لدينا من تمويل وعلماء وأجهزة ومعامل بعضها طاقات عاطلة.
والسياسة العلمية ليست من صنع العلماء, ولا وزير البحث العلمي, ولكنها من صنع الدولة كلها بمشاركة هؤلاء جميعا..وهذه الإستراتيجية تمثل أساسا الرؤية المستقبلية لمصر, ولاتقل بل تزيد أهميتها عن مشروعاتنا الكبري العملاقة التي نحشد لها قوي المجتمع مثل مشروع توشكي أو تعمير سيناء, ولابد أن تسير هذه مع تلك, ولا تنتظر الي أن تستكمل هذه المشروعات العملاقة ثم نفكر في التكنولوجيا الأفضل لاستغلالها, أو نستدعي غيرنا ليفكر لنا ويقدم لنا مايجود به من تكنولوجيا نستخدمها ولانصل الي أسرار تصنيعها والإضافة اليها.. وقضية التلازم بين الإستراتيجية العلمية والتكنولوجية واستراتيجيه بناء المستقبل الإقتصادي قضية لاتحتاج الي إيضاح.. بل إن هذه المشروعات الكبري هي الفرصة أمام علمائنا ومراكز أبحاثنا لتكون التحدي الذي يستثمر فيهم دوافع الإبداع, وليلمسوا أهمية وجدية مايقومون به من أبحاث ومدي الحاجة إليها.. وعل هامش الموضوع اليس غريبا أن مراكز البحث العلمي تشارك في هذه المشروعات العملاقة مشاركة محدودة, وتعمل من القاهرة بينما مكانها علي أرض هذه المشروعات مع طليعه العاملين فيها ليشاركوا في وضع اللبنات الأولي وفق رؤية علمية متكاملة.. ؟ وأليس غريبا أيضا أن مراكز البحوث الصناعية لم يتم تحويلها حتي الآن الي مراكز تطوير تكنولوجي وتعايش مشاكل الصناعة وتحديات تطويرها وتجويدها.
وحتي الآن لم نصل الي وقفة حازمة لتقييم مؤسسات البحث العلمي القائمة, علي الأقل لنحدد ـ بعيدا عن الاعتبارات الشخصية وحرص الوزارات علي عدم الانتقاص مما لديها ـ هل من المفيد أن تبقي مراكز البحث العلمي موزعة بين الوزارات وأكاديمية البحث العلمي والجامعات ومعاهد البحوث والمؤسسات الإقتصادية أو توحيد الجهة التي تتبعها.. أو علي الأقل إيجاد صيغة تنظيمية جادة للتنسيق والتفاعل بينها بدلا من استمرار هذه الجزر منعزلة.. ؟ وهل تحتاج الكوادر القائمة الآن الي إعادة تأهيل وتدريب أم أنها وصلت الي أقصي مايمكن الوصول اليه من مستويات الكفاءة العالمية..؟ وهل قاعدة البيانات الحالية عن البحوث والإنجازات كافية.. ؟ وهل استمار تجزئة موازنات البحث العلمي علي وزارات وجامعات ومراكز بحوث أفضل أم توحيدها لتوجيه اعتماداتها وفقا لسياسة وإدارة موحدة.. ؟ وهل أثمر التعاون الدولي في مجالات البحث العلمي والتكنولوجيا وماهي ثماره ؟ وهل من الأفضل تركيز مراكز البحث العلمي في القاهرة أم الأفضل توزيعها علي عدة مواقع وفقا لإعتبارات البحث العلمي والإحتياج اليها؟ وهل سياسة التعليم الجامعي الآن قائمة علي تخريج وإعداد أجيال من العلماء.. ؟ وهل العلماء وحدهم هم الكوادر المطلوبة أم أنا نعاني من عدم وجود صفوف مدربة ومؤهلة منالمساعدين الفنيين الذين يقومون في الدول المتقدمة بدور أساسي في مساعدة العلماء وفي إصلاح وصيانة الأجهزة الحديثة.. وليس هناك من ينكر أنه ليس لدينا الفنيون المؤهلون لإصلاح أجهزة الليزر التي تعمل في المجالات الطبية مع خطورتها أو غيرها من الأجهزة المماثلة..
ونحن نتحدث كثيرا عن دور العلماء المصريين في الخارج ولكننا لم نضع سياسة للرستفادة منهم.. ويكفي أن نعرف أن مركز بن جوريون في اسرائيل دعاالدكتور أحمد زويل لقضاء سنة لتدريب وإعداد مجموعة من الباحثين في مجال تخصصه بينما فكرنا نحن في الاستفادة به في ندوات الأوبرا وبرامج التليفزيون.. وفي أمريكا وأوروبا عشرات من العلماء العربيين يحدق معهم نفس الشيء..
وماقيل كثير عن مشروعات لزيادة تمويل البحث العلمي, ولكن مانفذ منه حتي الآن قليل.. قيل أن الإنفاق علي البحث العلمي والتطوير سيزداد ليصل الي نصف في المائة من الدخل القومي ثم يزاد تدريجيا.. وقيل إن القطاع الخاص سوف يشارك في التمويل.. وقيل إن الحكومة ستنشيء صندوقا قوميا لتمويل أنشطة العلم والتكنولوجيا.. وقيل إن الحكومة ستوفر حوافز لتشجيع القطاع الإنتاجي العام والخاص علي تمويل البحوث والتطوير واستثمار نتائجها في الإنتاج بخصم ماينفق عليها من وعاء الضرائب.. وقيل أن بعض مراكز البحوث الحكومية سيعاد التفكير في صيغة جديدة لأنشطتها بحيث تعمل في مشروعات مشتركة مع القطاع العام والخاص.. وقيل أنه سيتم تحسين قدرة هذه المراكز العلمية علي تسويق خدماتها ومنجزاتها كما يحدث في الدول المتقدمة.. وسيتم تعديل اللوائح البيروقراطية التي تكبل حركة الباحثين في تعقيدات إدارية لايحسنون التعامل معها.. وتطوير قوانين التوظف لتسهيل دخول وخروج وترقية العلماء دون عوائق لتكون اعتبارات الكفاءة والإنجاز وحدها هي الحاكمة..
وكثير مما قيل لم ينفذ.. وقد عاد الأمل في تنفيذه بفكر جديد بعد أن اعتزمت الحكومة تشكيل اللجنة الوزارية العليا, مع مالدي هذه الحكومة من عزيمة, وقوة إرادة وقدرة علي الإنجاز أكبر من القدرة علي الكلام.
عام99 هو الجسر الموصل إلي القرن الحادي والعشرين, والذي يبدو عصرا جديدا سوف تتحدد فيه مصائر الدول, والدولة التي لن تستكمل الاستعداد لهذا العصر الجديد لن تجد الفرصة بعد ذلك للحاق بالدول المتقدمة أو بالدول التي تنمو بسرعة, لان الدول الصناعية الكبري الغنية تضع القواعد الجديدة لنظام اقتصادي وسياسي عالمي جديد يسمح لها باحتكار القوة, ويعطيها المجال لزيادة ثروتها وسطوتها علي حساب الدول الصغيرة.
والمعركة الاولي أمامنا في العام الجديد هي استكمال التحول من الاقتصاد الشمولي إلي الاقتصاد الحر الذي لاتغيب عنه رقابة الدولة بإعتبارها الحارس المسئول عن تحقيق العدالة الاجتماعية, والاستقرار, والتوازن بين الحقوق والواجبات.. والمفروض ان يتم في هذا العام الانتهاء من مراجعة المنشآت الفاشلة التي كان بقاؤها ـ مملوكة للدولة ـ سببا من أسباب استنزاف موارد الدولة, وهذا الجزء من القطاع العام الفاشل هو المدرسة التي خرجت معظم القيادات الفاشلة, وأفرزت فلسفة تبرير الفشل والدفاع عنه, وهم الذين يعوقون عملية الاصلاح في القطاعات التي يديرونها لانهم يستفيدون من هذه الاوضاع المختلة.
وبرنامج الاصلاح الاقتصادي الذي بدأ منذ الثمانينات, وسار بخطوات أوسع وبحسم أكبر منذ عام1991, ثم دخل مرحلة جديدة من الانطلاق منذ عام1996, مازال محتاجا إلي قوة قوة دفع أكبر, لان هناك قضايا لم تحسم بعد, ومشاكل لم يتم حلها حلا حاسما حتي الآن, ومن حقنا أن نشعر بالرضا عما تحقق حتي الآن من نجاح شهدت به المؤسسات الدولية, ونشعر أيضا بالامل في قدرتنا علي تحقيق المزيد اذا استطعنا أن نحقق ثلاثة أهداف أولها: زيادة الادخار لانه يعني زيادة رأس المال المتاح للتنمية وإيجاد فرص عمل جديدة وثانيها: اعادة تنظيم وتأهيل جهاز الدولة الذي ترهل بوجود ثلاثة ملايين ونصف مليون موظف لاهم لهم إلا الشكوي من قلة المرتبات, وتأخر الترقيات, دون ان يقدموا عملا حقيقيا منتجا لتحسين الخدمات, ورفع المعاناة عن المواطنين, والهدف الثالث هو تحويل الكلام الكثير الذي يقال عن النهضة التكنولوجية إلي عمل حقيقي بحيث ندخل القرن الحادي والعشرين ولدينا قاعدة تكنولوجية معقولة تمكننا من تفهم ومسايرة التقدم المذهل الذي يحدث في العالم.
ومعركة زيادة الادخار ليست سهلة, وهي ـ في نفس الوقت ـ لاتحتمل التأجيل, فإذا كان معدل الادخار في هونج كونج مثلا31% من إجمالي الناتج المحلي, وفي كوريا35%, وفي سنغافورة47% فكيف يمكن ان يظل معدل الادخار في مصر6% فقط إذا حسبنا مدخرات المصريين في الداخل, و18% إذا حسبنا تحويلات العاملين في الخارج, وهي بالطبع خاضعة لظروف وعوامل ليست في أيدينا, ولانحتاج إلي تكرار البديهيات بالقول بان زيادة المدخرات هو الطريق الصحيح لسرعة النمو الاقتصادي, مع ملاحظة ان الادخار الحكومي هو الذي يمثل النسبة الاكبر في بعض الاحيان, بينما تمثل الزيادة في الادخار الخاص فان معدلها منخفض في كل الاحيان عن المعدلات في كل الدول التي تسعي للتنمية السريعة... وفي نفس الوقت فان الانفاق الحكومي في مصر أكبر من الانفاق الحكومي في الدول الصاعدة, فان نسبة انفاق الحكومة في هونج كونج16% من اجمالي الناتج المحلي, وفي كوريا17%, وفي سنغافورة20% بينما تصل هذه النسبة في مصر إلي35%.. وخفض هذه النسبة معركة ليست سهلة, ولكنها معركة لابد منها.
وتبقي أهم معارك99 هي معركة اعادة تنظيم جهاز الدولة, والتي حدد معالمها الرئيس مبارك في تغيير نظم الاداء للقضاء علي الشكوي من بطء القرار وتدني بعض الخدمات, وغياب الحساب, وضعف التنسيق والتكامل بين أطراف العمل المشترك, والخط السياسي الذي حدده الرئيس للعمل والاصلاح هو إدارة مرافق الحكم والخدمات إدارة علمية.
والحكومة من جانبها تعمل علي اصلاح الجهاز الاداري, ومواجهة الفساد في بعض المواقع, وبخاصة في المحليات التي تتعامل مباشرة مع المواطنين وهي الوجه الوحيد الذي تري به الجماهير الدولة وتحدد الجماهير علاقتها بالدولة بها من خلال ماتلمسه من هذه المحليات.. وهناك تقريبا اجماع علي ضرورة الحسم في التخلص من اللامبالاة, وبطء الاداء, والتعقيدات الادارية التي يضعها الموظفون ولاتضعها الدولة, وفي غياب الكفاءة والخبرة والرقابة والحساب والعقاب فان كل موظف يضع بنفسه نظام التعامل مع المواطنين فيمنح او يمنع, ويلجأ إلي تسهيل الامور أو تعقيدها وفقا للمعايير الاخلاقية.. والقيم.. والسلوك الشخصي.. وهذه أيضا معركة شديدة الصعوبة.. ولكن لايمكن الانطلاق المنشود في وجودها.. لان الجهاز الحكومي بوضعه الحالي قادر علي إجهاض كثير من الاعمال والقرارات العظيمة التي تصدر عن الحكومة, وتكفي الاشارة إلي ماتم من مخالفات الأوامر العسكرية بالبناء في الاراضي الزراعية وهدم الفيلات لمعرفة مدي قدرة الموظفين علي تحدي سياسات الحكومة وسعيها لتحقيق الانضباط والاصلاح والإلتزام بالقانون.. فمازال الجهاز يعمل وفق تراثه القديم فلا تطبق القواعد إلا علي من ليس لهم نفوذ أو من لايدفعون, وهذا هو السبب الحقيقي لانتشار الشعور بوجود الفساد حتي وان لم يكن منتشرا.
وليست القضية تغيير أشخاص وقيادات فقط, مع ضرورة ذلك, ولكن لابد مع هذه الخطوة من تغيير السياسات, ونظم العمل, وان يكون لكل موظف عمل حقيقي يؤديه ويحاسب عليه, ولاينال ترقية إلا علي أساس ما انجزه من هذا العمل, وليس لمجرد البقاء في وظيفته دون عمل منتج سنوات محددة مهما طالت.
نحن نحتاج إلي إلي مفهوم جديد لدور الموظف, والوظيفة, وأجهزة الخدمات, مفهوم يقوم علي ان المواطن له حقوق يجب أن يحصل عليها في أفضل صورة واقعي وقت ودون وضع العراقيل المصطنعة أمامه.. ويكفي ان نقارن بين أسلوب تعامل الموظف مع المواطن في أي بلد متقدم, وشعار الموظف دائما واجابته علي كل طلبات المواطن: ليست هناك مشكلة بينما تواجه المواطن المصري أجابة أخري بإن هناك مشكلة أمام أي طلب للحصول علي خدمة أو حق... الفارق في فلسفة العمل.. الموظف هناك في خدمة المواطن.. والمواطن هنا في خدمة الموظف.. الموظف هناك يتعامل مع المواطن علي أنه صاحب حق, والموظف عندما يتعامل يتصور ان مايحصل عليه المواطن هو منحه يمكن أن يعطيها أو يمنعها وفق الهوي والظروف.
وهناك معارك كثيرة.... كبيرة.. وصغيرة... ولكنها كلها ضرورية ولايمكن تأجيلها, لانه لم يعد لدينا لدخول القرن الحادي والعشرين سوي12 شهرا فقط.