معارك العام الجديد

لكل عام معارك ندخلها بإرادتنا أو تفرض علينا‏,‏ وتقضي الحكمة أن نحدد هذه المعارك‏,‏ ليكون لنا زمام المبادرة في اختيار ميدانها‏,‏ وتوقيت بدايتها‏,‏ وإعداد الاسلحة اللازمة للنصر فيها‏..‏ ومن حسن حظنا ان معارك عام‏99‏ معارك للبناء وتجديد أساليب العمل في أجهزة الدولة‏,‏ وفتح الطريق أمام قطار التنمية‏..‏ وليست التنمية الاقتصادية وحدها هي التي ستؤهلنا للقرن الحادي والعشرين‏,‏ ولكنها مرتبطة بالتنمية الاجتماعية‏,‏ والسياسية‏,‏ وغياب أحد اضلاع هذا المثلث سيجعل التنمية مختلة وغير متكاملة‏.‏

ولان عام‏99‏ هو الجسر الموصل إلي القرن الحادي والعشرين‏,‏ والذي يبدو عصرا جديدا سوف تتحدد فيه مصائر الدول‏,‏ والدولة التي لن تستكمل الاستعداد لهذا العصر الجديد لن تجد الفرصة بعد ذلك للحاق بالدول المتقدمة أو بالدول التي تنمو بسرعة‏,‏ لان الدول الصناعية الكبري الغنية تضع القواعد الجديدة لنظام اقتصادي وسياسي عالمي جديد يسمح لها باحتكار القوة‏,‏ ويعطيها المجال لزيادة ثروتها وسطوتها علي حساب الدول الصغيرة‏.‏

والمعركة الاولي أمامنا في العام الجديد هي استكمال التحول من الاقتصاد الشمولي إلي الاقتصاد الحر الذي لاتغيب عنه رقابة الدولة بإعتبارها الحارس المسئول عن تحقيق العدالة الاجتماعية‏,‏ والاستقرار‏,‏ والتوازن بين الحقوق والواجبات‏..‏ والمفروض ان يتم في هذا العام الانتهاء من مراجعة المنشآت الفاشلة التي كان بقاؤها ـ مملوكة للدولة ـ سببا من أسباب استنزاف موارد الدولة‏,‏ وهذا الجزء من القطاع العام الفاشل هو المدرسة التي خرجت معظم القيادات الفاشلة‏,‏ وأفرزت فلسفة تبرير الفشل والدفاع عنه‏,‏ وهم الذين يعوقون عملية الاصلاح في القطاعات التي يديرونها لانهم يستفيدون من هذه الاوضاع المختلة‏.‏

وبرنامج الاصلاح الاقتصادي الذي بدأ منذ الثمانينات‏,‏ وسار بخطوات أوسع وبحسم أكبر منذ عام‏1991,‏ ثم دخل مرحلة جديدة من الانطلاق منذ عام‏1996,‏ مازال محتاجا إلي قوة قوة دفع أكبر‏,‏ لان هناك قضايا لم تحسم بعد‏,‏ ومشاكل لم يتم حلها حلا حاسما حتي الآن‏,‏ ومن حقنا أن نشعر بالرضا عما تحقق حتي الآن من نجاح شهدت به المؤسسات الدولية‏,‏ ونشعر أيضا بالامل في قدرتنا علي تحقيق المزيد اذا استطعنا أن نحقق ثلاثة أهداف أولها‏:‏ زيادة الادخار لانه يعني زيادة رأس المال المتاح للتنمية وإيجاد فرص عمل جديدة وثانيها‏:‏ اعادة تنظيم وتأهيل جهاز الدولة الذي ترهل بوجود ثلاثة ملايين ونصف مليون موظف لاهم لهم إلا الشكوي من قلة المرتبات‏,‏ وتأخر الترقيات‏,‏ دون ان يقدموا عملا حقيقيا منتجا لتحسين الخدمات‏,‏ ورفع المعاناة عن المواطنين‏,‏ والهدف الثالث هو تحويل الكلام الكثير الذي يقال عن النهضة التكنولوجية إلي عمل حقيقي بحيث ندخل القرن الحادي والعشرين ولدينا قاعدة تكنولوجية معقولة تمكننا من تفهم ومسايرة التقدم المذهل الذي يحدث في العالم‏.‏

ومعركة زيادة الادخار ليست سهلة‏,‏ وهي ـ في نفس الوقت ـ لاتحتمل التأجيل‏,‏ فإذا كان معدل الادخار في هونج كونج مثلا‏31%‏ من إجمالي الناتج المحلي‏,‏ وفي كوريا‏35%,‏ وفي سنغافورة‏47%‏ فكيف يمكن ان يظل معدل الادخار في مصر‏6%‏ فقط إذا حسبنا مدخرات المصريين في الداخل‏,‏ و‏18%‏ إذا حسبنا تحويلات العاملين في الخارج‏,‏ وهي بالطبع خاضعة لظروف وعوامل ليست في أيدينا‏,‏ ولانحتاج إلي تكرار البديهيات بالقول بان زيادة المدخرات هو الطريق الصحيح لسرعة النمو الاقتصادي‏,‏ مع ملاحظة ان الادخار الحكومي هو الذي يمثل النسبة الاكبر في بعض الاحيان‏,‏ بينما تمثل الزيادة في الادخار الخاص فان معدلها منخفض في كل الاحيان عن المعدلات في كل الدول التي تسعي للتنمية السريعة‏...‏ وفي نفس الوقت فان الانفاق الحكومي في مصر أكبر من الانفاق الحكومي في الدول الصاعدة‏,‏ فان نسبة انفاق الحكومة في هونج كونج‏16%‏ من اجمالي الناتج المحلي‏,‏ وفي كوريا‏17%,‏ وفي سنغافورة‏20%‏ بينما تصل هذه النسبة في مصر إلي‏35%..‏ وخفض هذه النسبة معركة ليست سهلة‏,‏ ولكنها معركة لابد منها‏.‏

وتبقي أهم معارك‏99‏ هي معركة اعادة تنظيم جهاز الدولة‏,‏ والتي حدد معالمها الرئيس مبارك في تغيير نظم الاداء للقضاء علي الشكوي من بطء القرار وتدني بعض الخدمات‏,‏ وغياب الحساب‏,‏ وضعف التنسيق والتكامل بين أطراف العمل المشترك‏,‏ والخط السياسي الذي حدده الرئيس للعمل والاصلاح هو إدارة مرافق الحكم والخدمات إدارة علمية‏.‏

والحكومة من جانبها تعمل علي اصلاح الجهاز الاداري‏,‏ ومواجهة الفساد في بعض المواقع‏,‏ وبخاصة في المحليات التي تتعامل مباشرة مع المواطنين وهي الوجه الوحيد الذي تري به الجماهير الدولة وتحدد الجماهير علاقتها بالدولة بها من خلال ماتلمسه من هذه المحليات‏..‏ وهناك تقريبا اجماع علي ضرورة الحسم في التخلص من اللامبالاة‏,‏ وبطء الاداء‏,‏ والتعقيدات الادارية التي يضعها الموظفون ولاتضعها الدولة‏,‏ وفي غياب الكفاءة والخبرة والرقابة والحساب والعقاب فان كل موظف يضع بنفسه نظام التعامل مع المواطنين فيمنح او يمنع‏,‏ ويلجأ إلي تسهيل الامور أو تعقيدها وفقا للمعايير الاخلاقية‏..‏ والقيم‏..‏ والسلوك الشخصي‏..‏ وهذه أيضا معركة شديدة الصعوبة‏..‏ ولكن لايمكن الانطلاق المنشود في وجودها‏..‏ لان الجهاز الحكومي بوضعه الحالي قادر علي إجهاض كثير من الاعمال والقرارات العظيمة التي تصدر عن الحكومة‏,‏ وتكفي الاشارة إلي ماتم من مخالفات الأوامر العسكرية بالبناء في الاراضي الزراعية وهدم الفيلات لمعرفة مدي قدرة الموظفين علي تحدي سياسات الحكومة وسعيها لتحقيق الانضباط والاصلاح والإلتزام بالقانون‏..‏ فمازال الجهاز يعمل وفق تراثه القديم فلا تطبق القواعد إلا علي من ليس لهم نفوذ أو من لايدفعون‏,‏ وهذا هو السبب الحقيقي لانتشار الشعور بوجود الفساد حتي وان لم يكن منتشرا‏.‏

وليست القضية تغيير أشخاص وقيادات فقط‏,‏ مع ضرورة ذلك‏,‏ ولكن لابد مع هذه الخطوة من تغيير السياسات‏,‏ ونظم العمل‏,‏ وان يكون لكل موظف عمل حقيقي يؤديه ويحاسب عليه‏,‏ ولاينال ترقية إلا علي أساس ما انجزه من هذا العمل‏,‏ وليس لمجرد البقاء في وظيفته دون عمل منتج سنوات محددة مهما طالت‏.‏

نحن نحتاج إلي إلي مفهوم جديد لدور الموظف‏,‏ والوظيفة‏,‏ وأجهزة الخدمات‏,‏ مفهوم يقوم علي ان المواطن له حقوق يجب أن يحصل عليها في أفضل صورة واقعي وقت ودون وضع العراقيل المصطنعة أمامه‏..‏ ويكفي ان نقارن بين أسلوب تعامل الموظف مع المواطن في أي بلد متقدم‏,‏ وشعار الموظف دائما واجابته علي كل طلبات المواطن‏:‏ ليست هناك مشكلة بينما تواجه المواطن المصري أجابة أخري بإن هناك مشكلة أمام أي طلب للحصول علي خدمة أو حق‏...‏ الفارق في فلسفة العمل‏..‏ الموظف هناك في خدمة المواطن‏..‏ والمواطن هنا في خدمة الموظف‏..‏ الموظف هناك يتعامل مع المواطن علي أنه صاحب حق‏,‏ والموظف عندما يتعامل يتصور ان مايحصل عليه المواطن هو منحه يمكن أن يعطيها أو يمنعها وفق الهوي والظروف‏.‏

وهناك معارك كثيرة‏....‏ كبيرة‏..‏ وصغيرة‏...‏ ولكنها كلها ضرورية ولايمكن تأجيلها‏,‏ لانه لم يعد لدينا لدخول القرن الحادي والعشرين سوي‏12‏ شهرا فقط‏.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف