إصلاح المحليات
منذ ترددت صيحة الدكتور زكريا عزمي في مجلس الشعب إن الفساد في المحليات للركب أصبحت هذه العبارة علي كل لسان, وظلت تتناقلها الألسنة حتي أعلن رئيس الوزراء اعترافا بوجود الفساد في المحليات ووعد باصلاحه, وبعد ذلك أصبح الرأي العام مشغولا بهذه القضية, وفي حالة ترقب وانتظار لما ستسفر عنه دراسات رئيس الوزراء.
ومن الطبيعي أن تشغل الرأي العام قضية فساد واصلاح المحليات أكثر من غيرها.. لان كل خدمات الدولة من تعليم واسكان وعلاج ومرافق وبيئة وتموين تصل الي كل مواطن من خلال المحليات, ولان مشاكل المواطنين مع جميع أجهزة الخدمات في الدولة علي مستوي المدينة والقرية منسوبة الي المحليات بالحق وبالباطل. وهناك أمور كثيرة تهم المواطن العادي تتعلق باصلاح المحليات.. مثل اختيار قيادات المحليات.. واسلوب العمل في أجهزة الادارة المحلية.. والتعقيدات التي يواجهها المواطن في الحي والقسم والقرية.. ومدي انتشار المحسوبية والرشاوي وتطبيق القانون بكل شدة علي من لا ظهر له, والتحايل علي القانون لمن له ظهر أو وساطة.. ومثل مدي صلاحية قانون الادارة المحلية الحالي وقد مرت سنوات كثيرة منذ صدوره وتغيرت أمور كثيرة في الحياة المصرية, والحكومة تعلن ان المدخل لاصلاح كل شيء هو تعديل القانون, ولكنها بالنسبة لاصلاح الادارة المحلية تعلن مرة أنه لا حاجة لقانون جديد, ومرة أخري تعلن أنها تعد قانونا جديدا, وكان الأجدر بها أن تسأل الناس وتتعرف علي مشاكلهم قبل أن تسأل أهل التشريع والقيادات العليا في الادارة المحلية التي تري المشاكل الكبيرة التي يعاني منها الناس مشاكل صغيرة لا تستحق أن تنشغل بها الحكومة, وكثير من المشاكل اليومية الموجعة لا تصل اليها وهي في مكاتبها المنيعة في القاهرة.
ثم ان اصلاح المحليات لا يتم بالاستماع الي المحافظين وحدهم.. صحيح ان آراء المحافظين لها اعتبار كبير, ولكن الاصلاح الحقيقي لن يتم الا بالاستماع الي مستويات التنفيذ الأدني, عند رؤساء المدن والاحياء والمراكز والقري, فهؤلاء هم الذين يتعاملون مباشرة مع مشاكل الجماهير اليومية, وهم الذين يعانون ـ كما يعاني المواطنين وربما أكثر ـ يتحملون سخط المواطنون حين ينفذون سياسات متضاربة للحكومة, كما حدث بالنسبة لمشروعية ادخال المرافق في المناطق العشوائية والمباني التي أقامها الأهالي علي أملاك الدولة أو في الاراضي الصحراوية أو بالمخالفة لقانون البناء ودون تصريح شرعي..اذ قررت الحكومة عقاب هؤلاء المخالفين بحرمانهم من المياه والنور والصرف الصحي.. ولما اشتد عذاب سكان هذه المباني عادت الحكومة فقررت ادخال هذه المرافق لهم واعتبرت ذلك مكرمة وتيسيرا تريد من الناس أن يقدموا لها الشكر عليه, وفي الحالين كانت المحليات هي الضحية, لان غضب الناس انصب علي العاملين فها ولم يشفع لهم أنهم مجرد أدوات تنفيذ لقرارات وسياسات تصدر من المركزيات.
وكذلك يتردد ان المحليات هي المسئولة عن انتظام العمل وحسن ادارة الخدمات والمرافق, دون ادراك أن المحافظ وحده هو الذي يملك سلطات الرقابة والاشراف والحساب والعقاب علي العاملين في هذه الادارات, أما رؤساء المدن والمراكز فان المواطنين يلجأون اليهم ولا يجدون أمامهم سواهم بينما هم لا يملكون سلطة حساب أو عقاب علي أي تعقيد في أي موقع من مواقع الخدمات في دائرة عملهم.. فكأن رؤساء المدن والمراكز عليهم واجبات وليست لهم حقوق.. وعليهم مسئوليات وليست لهم سلطات تمكنهم من القيام بمسئولياتهم, والمبدأ الاساسي في القانون والعدل, وفي نظم الادارة العليا, انه لا مسئولية علي من لا سلطة له..
ونحن نردد دائما أقوالا جميلة عن التعاون بين الاجهزة الشعبية والاجهزة المحلية, ولكن صور التعاون غامضة, وتحديد العلاقة غير موجود, وحيث تكون العلاقات والحدود غير واضحة فإن الامور تترك للاجتهاد, والمزاج الشخصي, وتترك للاقدار حين تتوافق قيادات شعبية وتنفيذية بالمصادفة فتتعاون وتعمل معا ويكون ذلك من حظ المواطنين, ويتصادف وجود قيادات شعبية أو تنفيذية تريد ان تطغي وتستأثر فيحدث الصراع ويكون ذلك من سوء الحظ وتدفع الجماهير ثمن هذه الصراعات من مصالحها.
ومنذ أيام أعلن الجهاز المركزي للاحصاء نتائج دراسة عن الاجور والمرتبات في مصر كشف فيها ان أعلي الدخول في مصر للعاملين في السياحة وأقل الدخول للعاملين في المحليات.. أليس في هذه الحقيقة وحدها المفتاح الصحيح لفهم سبب انتشار الفساد في المحليات حتي وصل الي الركب علي حد تعبير الدكتور زكريا عزمي, وكما أعلن رئيس الوزراء بعبارات أقل حدة..؟ أليست هذه الحقيقة هي التي يجب أن تكون بداية اصلاح المحليات من عندها دون الهروب الي مسائل شكلية وفرعية أخري.. فالعاملون في الادارات الهندسية مثلا وهم يتعرضون لاغراءات فوق طاقة البشر أليس من حقهم أن يكون لهم كادر خاص مثل أصحاب الكادرات الخاصة, فإذا قلنا ان الظروف لا تسمح بالنسبة للدولة, فإن الظروف تسمح من الجانب الآخر, ويجب ألا تغيب أبدا من مناقشاتنا حادثة سكرتير المجلس المحلي الذي عرضت عليه رشوة خمسة ملايين جنيه مقابل اصدار ترخيص, كما يجب ألا تغيب عن عقولنا قصص الفيللات التي هدمت والابراج التي أقيمت والعمارات التي ازيلت والأدوار التي أقيمت علنا بالمخالفة للقانون, لنسأل أنفسنا كم مخالفة.. وما هي التكلفة الاجتماعية لهذه المخالفات.. ولماذا وصلت المخالفات الي هذا الحد الذي يجعل الناس تستهين بكل قوانين وقرارات ونظم البناء..؟
واذا كان هناك فساد وقصور وتسيب في المحليات, فإن فيها أيضا ايجابيات وشرفاء وانجازات مشهودة, وان كانت القلة المنحرفة هي التي تستأثر باهتمام الرأي العام لأنها هي التي تسبب المتاعب والمضايقات وتفسد ما يقدمه المخلصون من اصلاحات, فإن الانصاف يقتضي ان نضع في كفتي الميزان الحسنات والسيئات دون تحيز أو ظلم.. وسنجد ان المخلصين والشرفاء في الادارة المحلية هم الأغلبية, وسنجد اننا المخطئون لأننا تراخينا في محاسبة المنحرفين, ووضعنا قوانين تعطي حصانة للفاسدين, ولو كان سيف الحساب والعقاب جادا وباترا لانحسر الفساد الي أدني مستوي, ووجد الشرفاء الانصاف الذي يستحقونه.