ثورة المصريين بعد عامين
سيأتى يوم 25 يناير هذا العام مختلفا عن مثيله فى العام الماضى، ومختلفا أيضًا عن 25 يناير 2011 الذى انطلقت فيه شرارة الثورة الشعبية التى لم تشهد مصر مثلها فى تاريخها الحديث، سيأتى 25 يناير وفى قصر الرئاسة أول رئيس مدنى منتخب انتخابا حرا، ويواجه معارضة حقيقية، وصحافة حرة تصول فيها الأقلام وتجول، وحزب يحكم وعشرات الأحزاب تعارض، والساحة مزدحمة بكل الاتجاهات والتيارات السياسية والدينية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وبينهما درجات وألوان.
سيشهد يوم 25 يناير هذا العام أن مصر اختلفت وقطار التغيير مازال يسير فى طريقه بسرعة أحيانا وببطء أحيانا ويتوقف أحيانا بفعل فاعل، ولكنه حتما سيصل إلى محطته الأخيرة التى يتحقق فيها العدل الاجتماعى والنمو الاقتصادى والتقدم العلمى التكنولوجى والدولة الحديثة التى تناسب القرن الحادى والعشرين.
سيشهد هذا اليوم أنه أصبح لدينا جيش وطنى تفرغ لمهمته المقدسة وهى الدفاع عن الحدود وحماية الأمن القومى. وسيشهد جهاز الأمن فى مصر وقد تغيرت عقيدته ليكون فى خدمة الشعب وأمنه وسار خطوات فى طريق إعادة البناء ولا تزال أمامه خطوات أخرى لكى يكتمل له التماسك ويسترد قدراته ويتمكن من تخليص البلاد من البلطجية ويفرض احترام القانون على الجميع دون استثناء ويعيد الانضباط إلى الشارع المصرى وينهى حالة الانفلات والفوضى التى كانت أشبه بالعشوائيات.
سيأتى هذا اليوم ولدينا مجلس منتخب مكلف بمهمة التشريع وإن كان هذا المجلس ودوره موضع خلاف، وكل شىء فى مصر الآن موضع خلاف، إلا أنه على أية حال قد ينهى على نحو ما الفراغ الدستورى والتشريعى وللضرورة أحكام.
وسيأتى 25 يناير ولدينا وعود وآمال عريضة فى السير بالبلاد فى طريق التنمية الاقتصادية بالصناعة والزراعة - وليس بالاستيراد وحده تتقدم الأمم - بحيث يتحقق الرخاء الحقيقى - بإنتاجنا وليس بالقروض - وتتحقق العدالة الاجتماعية الحقيقية - بتكافؤ الفرص والحق فى نصيب عادل من الثروة والسلطة - وليس بالصدقات وحدها.. وبأن تكون المرحلة هى مرحلة عمل وتنتهى مرحلة الكلام والجدل والخلافات والانقسام، ولعل مبادرة الأزهر لوقف التراشق الإعلامى وخروج النقد عن حدود الأخلاق والقانون وتحول الخلافات السياسية إلى خناقات شوارع يتبادل فيها الأطراف الشتائم والاتهامات بدلا من طرح مبادرات وأفكار وبدائل.. لعل هذه المبادرة تقلل الهوة وتخفف من حدة الانقسام، وقد تؤدى إلى اتفاق على أن يكون الخلاف فى الرأى فى إطار الحرص على المصلحة العامة وتفنيد أسباب الرفض وتقديم بدائل وأفكار جديدة بدلا من الاكتفاء بدور «الندابة»!
???
لا أقول إن «كل شىء تمام».. فهناك قضايا مازالت معلقة، وأحلام مهددة، ووعود لم تنفذ، ومشاكل معقدة ومتشابكة، ولكن مادام قطار الثورة يسير ولم يتوقف فإن علينا أن نصحح ونطور ونساعد. ونحن الآن فى أوضاع ثورة شعبية لم تكتمل بعد - على حد وصف المستشار طارق البشرى - الذى رأى أن الثورة نجحت ولم تكتمل.. أنجزت أشياء ولم تحقق أشياء.. أنجزت الإطاحة بالنظام الذى كان قائما وتغيرت الخريطة السياسية. ولم تعد تمسك بمقاليد البلاد تلك الشريحة الفاسدة من رجال الأعمال الطفيليين الذين كونوا ثرواتهم ليس من الإنتاج الحقيقى، ولكن باستغلال النفوذ والإمساك بالسلطة السياسية وبالقدرة على التأثير على القرار.. والثورة تخلصت من بعضهم ومازالت تعمل لتخليص البلاد من نفوذهم بالأموال التى ينفقونها بالملايين بعد أن فقدوا نفوذهم السياسى.. وفى النهاية سيتم القضاء على «مراكز القوى» التى تكونت بغير الطريق الشرعى الديمقراطى واستفحلت وصارت كالسرطان الذى يقتل خلايا الجسم الوطنى فكانت تقتل المواهب والقدرات لدى الشباب وتجهض كل محاولة للتحديث والوصول بالبلاد إلى ما وصلت إليه بلاد كانت أكثر ضعفا وتخلفا.. مراكز القوى هى التى كانت تعمل على إجهاض الآمال لدى الطبقات الشعبية فى الحصول على نصيبها العادل فى الثروة وعائد الإنتاج.. ومن أهم ما تحقق أن إدارات الدولة لم تعد خاضعة لجهاز الأمن وأن جهاز الأمن يعود تدريجيا إلى رسالته الطبيعية التى أنشئ من أجلها وتلتزم به الأجهزة المماثلة فى الدول المتقدمة وهى حفظ أمن الشعب وفرض القانون على الجميع دون محاباة أو استثناء.
???
يضع المستشار طارق البشرى يدنا على المشكلة الأساسية التى تواجهنا وهى أننا - ونحن نبدأ العام الثالث للثورة - ليس لدينا حتى الآن حزب أو تنظيم أو جماعة تمثل الشعب كله.. وليس لدينا تحالف أحزاب يمثل الشعب كله. ليس لدينا تنظيم شعبى مثل وفد ثورة 1919 أو مثل حزب المؤتمر فى الهند قبل استقلالها، أو مثل حزب الكومنتانج فى روسيا أو الحزب الشيوعى الصينى فى ذلك الوقت البعيد. وليس لدينا تشكيل ائتلافى يمثل الرأى العام فى مجمله، ولذلك نشهد حالة الانقسام التى تعطل المسيرة وتعوق تفرغ المواطنين لحياتهم وأعمالهم واطمئنانهم إلى وجود هذا التنظيم أو هذا الائتلاف ليتولى عنهم المهمة ويتحدث باسمهم ويعمل لصالحهم.. والمستشار البشرى - بضمير القاضى ورؤية المؤرخ - يحذر من الوقوع فى المحظور إذا لم يتم تجاوز الأسباب التى أدت إلى قيام نظام حكم فردى فسنقع فيه من جديد. والمعضلة التى تواجه الثورة هى «تفكيك جهاز الدولة» والضعف الشديد للأحزاب وضعف النقابات والجمعيات، واستمرار هذين العاملين يؤدى إلى خطر شديد، لأن محاولات تفكيك الدولة أو نزع الهيبة والاحترام عنها معناها الوقوع فى الفوضى التى يستحيل فى ظلها البناء أو الإصلاح أو التنمية.
المأزق الذى يشعر به الجميع سببه أن الثورة سبقتها فترة مخاض ثورى منذ نهاية عام 2004 وبداية عام 2005، ولم تكن الأحزاب الرسمية فى ذلك الوقت قادرة على المساهمة فى إشعال ثورة أو فى قيادتها أو حتى فى تحريك الثوار، وفى هذا الوقت ظهرت قيادات فكرية وثقافية وحركية وإعلامية مشهود لها بالوطنية ساهمت فى تهيئة «الحالة الثورية» إلا أنها لم يكن لها اتصال مباشر بالجماهير وبالتالى لم تكن هى التى حركت الملايين ودفعتهم إلى الميادين.. قبل الثورة كان «التمهيد لها» يتمثل فى حركات الاحتجاج والعصيان والمظاهرات التى قامت بها جموع العمال والموظفين وطوائف المواطنين.. وهذه حققت شيئا مهما جدا أدى إلى الثورة، هو «ثقافة الاعتياد على الخروج والتظاهر» أما الأحزاب والقيادات السياسية الجديدة فلم تستطع تجميع القوى الشعبية الغاضبة فى كتلة شعبية واحدة تحت شعارات سياسية واضحة، ولم تظهر قيادات تنظيمية تلتف حولها الملايين كما حدث فى ثورة 1919.. ولذلك انفجرت ثورة 25 يناير بدون قيادة أو زعامة وبدون تنظيم أو حزب قائد، ولذلك - أيضا - تعرضت لجرائم قتل شبابها النبيل وقدمت 846 شهيدا و6500 مصاب فى خمسة أيام قبل أن تنسحب الشرطة وتتولى القوات المسلحة حماية الثورة من محاولات إجهاضها، وكان اليوم الخامس هو يوم موقعة الجمل الذى شهد أكبر جريمة لن يغفر الله ولن يغفر التاريخ لكل من خطط وسعى لها وكل من أدارها ومولها.
???
وبنظرة إلى المشهد كله بما فيه من ألوان تندرج بين الأبيض والأسود والرمادى تظهر حقيقة يجب ألا تتوه فى زحام المحاولات الرخيصة لتزوير التاريخ، وهى أن تجاوب القوات المسلحة مع الشعب هو الذى حمى شعب مصر من تصاعد القتال بعد 28 يناير وهو الذى عجل بسقوط النظام ويكفى أن نفكر فى فرض بسيط.. ماذا كان سيحدث لو أن القوات المسلحة لم تتخذ هذا الموقف أو إذا اتخذت عكسه؟!
ونحن على مشارف 25 يناير جديد يسجل التاريخ أن هذا اليوم وما تلاه من أيام قد أثبتت أن الشعب المصرى ملىء بالوطنية وبالروح الثورية وبالاستعداد للتضحية بكل ما يملك - حتى بالروح وبنور العيون - من أجل العيش والحرية والكرامة. وكانت الحقيقة فى الميادين أن الجماهير التى كان يقول المتحرصون إنها جماهير سلبية قد أثبتت العكس حين انتفضت بالملايين وعبرت عن نفسها بالمواقف وبالأعمال، وأثبتت أيام الثورة أن هذا الشعب يمكن أن يتوحد تلقائيا حتى بدون قيادة وبدون تنظيم، وأن الحركة الشعبية التى تحققت بصورة مذهلة أثبتت حقيقة جديدة فى علم الثورة وهى أن «الشعور الجمعى» يمكن أن يقوم مقام التنظيم والقيادة.
وبعد عامين من قيام هذا الحدث التاريخى الكبير آن الأوان لدراسة تفاصيل ما حدث وتسجيلها يوما بيوم ولحظة بلحظة بسلبياتها وإيجابيتها، وما تحقق بعد ذلك وما لم يتحقق، والأخطاء التى وقعت، وقد أخطأ الجميع وهذا طبيعى فى وقت انفجار وانفلات وسيولة واحتمالات كثيرة.. الهدف هو إعداد سجل تاريخى حقيقى وخال من التزييف والمبالغة ليبقى للأجيال القادمة، والخروج بدروس تعصمنا من تكرار الخطأ.
هذا وقت محاسبة النفس.. وقت النقد الذاتى.. وقت المصارحة وفتح القلوب والتصافى ونسيان اللحظات المؤلمة وتذكر اللحظات المجيدة والتطلع إلى اللحظات القادمة وبيدنا أن نجعلها لحظات سعيدة