نظمت وزارة العدل في الأسبوع الماضي ندوة برئاسة وزيرها المستشار فاروق سيف النصر, بمناسبة الذكري العاشرة لصدور حكم محكمة التحكيم في قضية طابا, ونجحت في الإعداد العلمي لها علي أعلي مستوي, وفي حشد أكبر العقول المصرية من رجال القانون والسياسة والدبلوماسية, وكانت في تكملة للندوة الاستراتيجية التي نظمتها القوات المسلحة في ذكري مرور ربع قرن علي نصر أكتوبر, وكشفت هذه الندوة كيف أن روح أكتوبر التي حققت النصر العظيم لقواتنا المسلحة في معركة العبور هي التي كانت وراء النصر في ملحمة طابا.
ومن خلال متابعة أعمال هذه الندوة تأكدت مبادئ ومعان لابد أن تكون واضحة أمام الجيل الجديد من الشباب الذي لم يعايش هذه الأيام بما كان فيها من معارك وطنية.
وبعد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في26 مارس1979 وبعد انسحاب إسرائيل من مساحة تزيد علي30 ألف كيلو متر مربع من سيناء نشأ الخلاف حول10 كيلو مترات حاولت إسرائيل أن تظفر بها في آخر لحظة كما هي عادتها. وأعلنت إسرائيل ضم منطقة طابا إليها بادعاء أنها داخلة في نطاق فلسطين تحت الانتداب. وكانت معاهدة السلام قد نصت علي انسحاب إسرائيل من سيناء إلي ما وراء الحدود الدولية, وحددت المعاهدة أن هذه الحدود الدولية هي الحدود المعترف بها بين مصر وفلسطين تحت الانتداب.
وعندما اشتدت الأزمة بدأت المفاوضات بين مصر وإسرائيل وشاركت فيها الولايات المتحدة, وبعد المناورات الإسرائيلية المعتادة وقعت مصر وإسرائيل اتفاقا في25 أبريل82 يقضي بحل الخلاف عن طريق التفاوض فإن لم تصل المفاوضات إلي حل يكون اللجوء إلي التوفيق أو التحكيم.. وكما هي العادة أيضا فشلت المفاوضات التي شاركت فيها أمريكا, وحاولت إسرائيل أن يكون الحل عن طريق التوفيق, لكن مصر رفضت بقوة, لأن التوفيق عادة ما ينتهي بتنازل كل طرف عن بعض مطالبه وقبول حل وسط, وصممت مصر علي التحكيم, ولما بدأت إسرائيل مناوراتها من جديد أعلن الرئيس حسني مبارك بحسم قاطع أن مصر لن تفرط في سنتيمتر واحد من الأرض المصرية ولو خضنا من أجله أعتي المعارك وكان تعليق الخارجية الأمريكية أن النقطة الوحيدة التي لا تبدي مصر فيها استعدادا للمرونة هي مسألة السيادة.
وكما هي العادة أيضا فإن كل شيء مع إسرائيل بالغ الصعوبة, حتي أن وضع مشارطة التحكيم ـقبل التحكيمـ كان معركة بالغة الصعوبة, لأن إسرائيل حاولت أن تجعل مهمة هيئة التحكيم بحث الحدود بين مصر وفلسطين تحت الانتداب وهذه مسألة يطول بحثها, وأصرت مصر علي أن تحصر مهمة هيئة التحكيم في سؤال واحد محدد: أين الموقع الحقيقي لعلامات الحدود المتنازع عليها وعددها14 علامة وأهمها العلامة91, وهل قامت إسرائيل بتحريك هذه العلامات للتلاعب في حقائق الأرض أم لا؟. وبعد مفاوضات مضنية نجح فريق القانونيين المصريين في وضع مشارطة التحكيم في صياغة دقيقة لا تعطي إسرائيل فرصة التحايل أو المماحكة.
وشكلت مصر فريق الدفاع من أكبر الخبراء ذوي المستوي العالمي, وكان هذا الفريق من24 خبيرا منهم9 من أقطاب الفكر القانوني وكان بينهم الدكتور وحيد رأفت نائب رئيس حزب الوفد رحمه الله, كما كان بينهم2 من علماء الجغرافيا والتاريخ, و5 من أكبر الدبلوماسيين بوزارة الخارجية, و8 من العسكريين وخبراء المساحة العسكرية.
وشكلت هيئة التحكيم من أكبر رجال القانون العالميين: القاضي جانر لاجروجرين السويدي, والقاضي بيير بيليه الفرنسي, والبروفيسور ديتريش شندلر السويسري, والدكتور حامد سلطان المصري, والدكتور روث لابيدوث الإسرائيلي. وقدمت هيئة الدفاع المصرية آلاف الوثائق, والمذكرات, والأسانيد الجغرافية والتاريخية والقانونية, وزارت هيئة التحكيم مواقع علي الطبيعة في سيناء, وكانت إسرائيل قد لجأت إلي اللعبة التقليدية التي تجيدها بتغيير معالم المنطقة لفرض أمر واقع جديد.. وأقامت فندقا في طابا ليكون مسمار جحا ولا يكون أمام مصر إلا قبول استمرار ملكيتة إسرائيل الفندق أو التسليم بحق الإسرائيليين في الانتقال إلي منطقة طابا دون جوازات سفر كما طلبت بعد ذلك.. وكل ذلك كان موضع رفض قاطع.. وكانت هذه معركة أخري.
وبشهادة الجميع كان أداء فريق الدفاع المصري علي أعلي مستوي من الكفاءة والمقدرة حتي أن الدكتور بطرس غالي قال ـفي رسالة بعث بها إلي الندوةـ إن يوم عودة طابا هو عيد قومي للقنانونيين المصريين الذين تحولت المواجهة المصريةـ الإسرائيلية علي أيديهم من الميدان العسكري إلي الميدان الدبلوماسي والقانوني, وأثبتت القيادة المصرية نضوجا سياسيا بالتزامها بالسلام وفي الوقت نفسه التزامها بالتمسك بالتراب الوطني كاملا دون تفريط. وكان موقف القيادة المصرية في ذاته أهم عوامل النصر في هذه المعركة.
كانت مصر وقت معركة طابا مثالا للوحدة الوطنية, كان كل المصريين وراء وفد المفاوضين, تماما كما كانوا وراء جنود معارك أكتوبر, وتطوع كل من لديه دليل أو فكرة أو مرجع بتقديم ما لديه دون طلب.. بحيث وجدت هيئة الدفاع تحت يدها ترسانة من الأسانيد القانونية والتاريخية والعلمية والوثائق الأصلية.
وحين صدر حكم هيئة التحكيم مؤيدا حق مصر في طابا, أوجدت إسرائيل أزمة جديدة في التنفيذ, وأعلنت أن مصر حصلت علي حكم لمصلحتها, ولكن التنفيذ لن يتم إلا برضا إسرائيل وبناء علي شروطها, ولكن القيادة المصرية استمرت علي صلابتها وشجاعتها ورفضت كل العروض والمناورات الإسرائيلية وكان آخرها طلب إعطاء إسرائيل مركزا متميزا في طابا..
وسيبقي موقف الرئيس مبارك من هذه القضية علامة في التاريخ الحديث, كما ستبقي كلماته حين سئل: هل تقبل الحل الوسط في طابا فأجاب أمام العالم كله: وهل يمكنك أن تتنازل عن أحد أبنائك مقابل أي شيء.. وقوله للعالم: إن طابا أصبحت عاصمة مصر الأولي والأرض المقدسة..
كما سيبقي في التاريخ دور هيئة الدفاع وكل من مشاركهم وساعدهم, حتي تحقق لمصر هذا النصر الذي لم يخدم مصالح مصر الوطنية فقط, ولكنه أرسي مبدأ سيادة القانون فوق القوة, والعدالة فوق الأطماع, والحق فوق الباطل, وأعاد الثقة في جدوي القانون بدلا من الحرب لحل المنازعات.. وهذا ما شجع دولا أخري علي حل مشكلاتها بالأسلوب نفسه وانتهت مشكلات ليبيا وتشاد, واليمن وإريتريا بالطريق نفسه.
والدرس الباقي هو ضرورة إجراء مسح شامل لجميع حدود مصر الدولية وتسجيل المعلومات والصور والأسانيد والوثائق الخاصة بها.
لقد كانت معركة طابا ملحمة مكملة لملحمة أكتوبر, ودرسا للأبناء, ليتعلموا كيف يدافعون عن وطنهم بالحق وبالقوة وبالعلم والعزيمة. ولابد أن يبقي هذا الدرس حيا علي الدوام وماثلا في قلوب الأجيال المتعاقبة علي مدي التاريخ.