العولمة و حضارة السوق

بعض المثقفين نذروا أنفسهم للترويج لفكرة العولمة بقوة الي حد اتهام كل من يوجه نقدا اليها بأنه متخلف‏,‏ واسير ايديولوجيات سقطت وانهزمت‏,‏ وربما يكون في اتهامهم ايضا اشارة الي ان من يقف في وجه العولمة خائن‏,‏ أو مخرب‏,‏ او عميل لفكر الجمود والإرهاب‏..!‏

ومع ذلك فإن ما يطرح من أفكار حول العولمة يحتاج الي فحص ومراجعة‏,‏ بحيث لا يؤخذ كله‏,‏ ولا يترك كله‏,‏ فالمطروح علينا هو التعبير عن سعي امريكا الي فرض سيادتها علي العالم‏..‏ سيادة اقتصادية‏..‏ وعسكرية‏..‏ وفكرية‏..‏ وحضارية‏..‏ بحيث يتحول العالم كله ـ او معظمه علي الأقل ـ الي قرية امريكية صغيرة تحكمها وتديرها امريكا‏!‏

نقطة الانطلاق الأمريكية في نظريتها عن العولمة انه بانهيار الاتحاد السوفيتي انتهي عصر الأيديولوجيات وأصبحنا نعيش الآن في عصر المصالح الاقتصادية فقط‏,‏ كما انتهي عصر الحدود الجغرافية بين الدول‏,‏ والشخصية القومية للشعوب‏,‏ وخصوصية الثقافات‏,‏ واحترام سيادة الدول‏,‏ وحماية المصالح والمنتجات القومية‏,‏ واصبح كل ذلك من مخلفات الماضي‏..‏ وعلي شعوب العالم كله أن ترقص علي نغمات امريكية‏..‏ وتعيش وفقا لأسلوب الحياة الأمريكية الذي تفرضه علي الشعوب وتجعل ذلك شرطا للتعاون ومنح المساعدات والقروض‏,‏ واسلوب الحياة الأمريكية المفروض يشمل القيم الأمريكية‏..‏ ابتداء من نشر الهامبورجر والكوكاكولا والجينز وموسيقي البوب‏,‏ الي مبدأ إطلاق الحرية الجنسية وتشجيع تمرد الأبناء علي آبائهم بإطلاق الحرية لهم قبل أن يصلوا الي مراحل النضج والتمييز‏..‏ الي آخر قائمة طويلة من الحريات التي تعمل امريكا علي فرضها علي الشعوب بمختلف الطرق‏..‏ بالإعلام‏..‏ والأفلام‏..‏ والنظريات الفلسفية‏..‏ والبعثات‏..‏ والرحلات‏..‏ والمؤتمرات‏,‏ الي الوسائل الأقوي من الضغوط السياسية والاقتصادية‏,‏ وحتي التهديد بالحرب‏,‏ والي حد اعلان الحرب‏..!‏

كل ذلك من اجل فرض الثقافة الأمريكية علي العالم‏..‏ لماذا؟ لكي يسود العالم ثقافة واحدة تدين بالولاء لأمريكا وتستلهم الشعوب من امريكا الفكر والسلوك وتسلم بكل ما يأتي منها فيسهل عليها قيادة العالم‏..‏ ونخطئ اذا حاولنا توجيه اللوم لأمريكا‏..‏ فما تسعي اليه هو التعبير عن حقائق القوة في العالم اليوم‏..‏ وعلي الشعوب التي تريد ان تحافظ علي هويتها وثقافتها ان تفعل ذلك وتقبل بذل الجهد لحماية الذات القومية‏.‏

صحيح ان النظام العالمي الجديد لم يستقر بعد‏,‏ ولم تستقر امريكا علي عرش العالم دون منازع حتي الآن‏..‏ فهناك قوي صاعدة سوف يكون لها دورها في النظام العالمي الجديد‏..‏ وهناك حقيقة ان الرأسمالية وفقا للمواصفات الأمريكية حققت نجاحها المذهل في امريكا ولم تحقق مثل هذا النجاح في دول اخري‏,‏ ففي روسيا سقط النظام الاشتراكي ولكن النظام الرأسمالي لم تظهر قوته السحرية حتي الآن ولم تتحسن أحوال شعوب الاتحاد السوفيتي السابق في حكم جورباتشوف ويلتسين عما كانت عليه ايام ستالين وبريجنيف واندروبوف‏,‏ بل ازدادت سوءا‏.‏ ومازال التدهور مستمرا رغم مرور عشر سنوات واكثر‏,‏ ولا تبدو في الأفق بوادر تحسن مع انتشار الفساد والمافيا والبغاء وتحلل سلطة الدولة والانهيار الاقتصادي‏,‏ بل تبدو غيوما سوداء سوف تظلل هذا الجزء من العالم فيواجه مصيرا مجهولا‏..‏ وظهر في هذه البلاد من يدعو الي اعادة النظر‏,‏ والتريث في الاندفاع نحو العولمة والي البحث عن طريق جديد يتجنب عيوب الاشتراكية بصورتها السوفيتية‏,‏ والرأسمالية بصورتها الأمريكية‏..‏ وفي الصين اكتشفوا ان مسايرة النظام العالمي بالشكل الذي تفرضه امريكا اقترنت بانتشار الرشوة‏,‏ وصور جديدة من الفساد‏,‏ وتدهور نظام التعليم‏,‏ وتحول القري المنتجة الي شوارع مزدحمة بالبوتيكات التي تبيع السلع الأمريكية‏..‏ كما ادت الي انشغال الناس بصفقات مشبوهة بحثا عن الربح الحلال والحرام‏,‏ بما في ذلك المدرسون الذين وجدوا انهم انشغلوا ببيع الحلوي للتلاميذ في الفصول‏..‏ ومحصلوا القطارات الذين وجدوا انهم يؤجرون القطارات لحسابهم‏..‏ ووجدوا المعابد المقدسة والحصون التاريخية سوف تتحول الي مدن ملاه واسواق تجارية وسياحية‏..‏ اي ان كل شئ اصبح معروضا للبيع وفقا لاقتصاد السوق‏..‏ حتي الضمائر والذمم‏..‏ وحتي القيم والعقائد‏..‏ وحتي الشخصية القومية‏..‏ وحتي التاريخ وأمجاد الماضي‏..‏ وحتي الأبطال والشخصيات القومية‏..‏ ولا شئ يهم الاالحصول علي الثمن المناسب‏,‏ هذا هو اقتصاد السوق في المفاهيم الجديدة في ظل العولمة‏..!‏ وفي العالم الثالث لم يثبت ان الدول التي اتبعت نصائح البنك والصندوق الدوليين حققت نهضة اقتصادية واجتماعية‏,‏ او تحسنت فيها احوال الفقراء‏,‏ بل حدث العكس‏.‏

كل هذه الشجون والملاحظات أثارها الدكتور جلال امين المفكر الاقتصادي والاجتماعي المعروف في كتاب صغير ولكنه كبير القيمة صدر اخيرا بعنوان العولمة يحذر فيه ـ بالتحليل والدليل ـ من مسايرة كل التغيرات التي تحدث في العالم دون مراجعته أو اختيار أو انتقاء ما يفيدنا منها ومالا يفيدنا‏..‏ وما يصلح لنا وما لا يصلح‏.‏

فالدكتور جلال امين يفتح عيوننا إلي مؤتمرات دولية كبيرة تعقد لنشر‏..‏ مبدأ الحرية الفردية الي حد التساهل مع الميول والأهواء الشخصية‏..‏ والي حد الدعوة الي ترسيخ مبدأ الفرد هو الأساس ومصلحته ورغباته هي المعيار وليس العائلة‏,‏ ولا الأمة‏,‏ ولا الدين‏,‏ ولا التقاليد‏,‏ ولا العرف‏,‏ وكل ما هو مفروض علي الفرد من قيود من هذه الدوائر من حقه التخلص منها‏.‏

وهو يشيرالي النغمة التي تتردد في الكتابات الاقتصادية من ان العالم الصناعي المتقدم آخذ شيئا فشيئا في الاستغناء عن العالم الثالث‏,‏ وان تهميش العالم الثالث وابتعاده عن المجري الرئيسي للاقتصاد العالمي والتجارة الدولية والتقدم التكنولوجي متجه الي الانكماش والتضاؤل بينما تزيد العلاقات قوة بين الدول الصناعية بعضها بعضا‏.‏ وهذه الفكرة جاءت من الاقتصادي آرثر لويس اكبر الكتاب في قضايا التنمية والعالم الثالث الذي حصل علي جائزة نوبل في الاقتصاد في أواخر السبعينات علي نظرياته وملخصها ان الفكرة السائدة بأن رخاء البلاد الصناعية يعتمد علي استغلال البلاد المتخلفة غير صحيحة‏,‏ والواقع ان مجموع كل صادرات آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية لا يزيد علي‏3,5%‏ من مجموع الدخل القومي للدول الصناعية‏.‏ ولذلك لو تصورنا ان آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية غرقت تحت سطح البحر‏.‏ فلن يؤثر ذلك تأثيرا يذكر علي الرخاء الحاضر أو المستقبل لأوروبا والولايات المتحدة‏!.‏

هذا هو مصدر النغمة التي تتكرر وبدأ يصدقها الكثيرون من كتاب العالم الثالث نفسه‏,‏ ويقدم الدكتور جلال امين اكثر من دليل علي ان هذه النظرية ـ التي حصل صاحبها علي جائزة نوبل ـ تحمل من البطلان اكثر مما تحمل من الصدق‏.‏ ولكن ليس من الصعب ان ندرك سبب شيوعها وانتشارها‏.‏

قد تكون أهمية دول العالم الثالث كمنتجة آخذة في الانخفاض‏,‏ ولكن أهميتها كمستهلكة آخذة في الزيادة وهي مؤثرة في الاقتصاد العالمي‏,‏ وأهميتها كمستهلكة مرتبطة بأهميتها كمنتجة‏,‏ لأن حجم الاستهلاك يتوقف في النهاية علي حجم الإنتاج‏..‏ ومن هنا فإن تدهور الإنتاج في العالم الثالث سيؤدي علي المدي الطويل الي تدهور الاستهلاك ويصيب الاقتصاد العالمي بانتكاسة ويهدد رخاء الدول الصناعية الكبري الغنية التي تحقق الغني عن طريق التصدير الهائل للعام الثالث‏.‏

من هنا فإن مجموعة الأفكار التي يطرحها المثقفون العرب عن العولمة تحتاج الي مراجعة‏..‏ وهذا ما فعله الدكتور جلال امين بخبرته وعلمه‏..‏ ومازال الكتاب يحتاج الي تحليل اوسع مازال الموضوع ذاته يحتاج الي مجهودات اكثر من المفكرين الوطنيين‏.


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف