قراءة فى ملف خدمة

كانت حادثة قطار كفر الدوار كارثة بكل المقاييس‏..‏ يكفي ان عدد ضحاياها من القتلي والجرحي يفوق عدد ضحايا الزلزال عام‏1992,‏ ويقترب من عدد ضحايا حرب من الحروب التي خاضتها مصر‏..‏ ولذلك كان من الطبيعي أن تسبب القلق للرأي العام‏..‏ خاصة انها ليست الاولي‏..‏ ولن تكون الاخيرة‏..‏ واضيف اليها شعور القلق الذي صاحبها بانتشار ظاهرة التغذية غير المطابقة للمواصفات في‏9‏ مناطق‏.‏وكما هي العادة‏:‏ سوف تكال الاتهامات من الرأي العام للمسئولين في الوزارات المختصة‏,‏ وسوف تحشد هذه الوزارات اسلحتها الاعلامية للتهوين من المشكلة‏,‏ والاستناد إلي أنها ظواهر قديمة ومتكررة ويجب ان نحمد الله لأنها الآن اقل مما كانت في السنوات السابقة‏..‏ وغالبا ما ستلجأ كل جهة الي تبرئة نفسها والقاء التهمة علي غيرها‏..‏ ففي حادث القطار القيت التهمة علي الجمهور‏,‏ وان المتسلقين علي سطح القطار افسدوا فرامل القطار‏,‏ واظهرت التحقيقات ان الفرامل كانت فاسدة قبل القيام‏,‏ وان السائق لم يكن هو المكلف اصلا بقيادة القطار‏..‏ وقصص اخري كثيرة‏..‏ وتفاصيل‏..‏ المقصود بها ان تضيع الحقيقية في الزحام وتختلط الوقائع وهذا فن برعت فيه الاجهزة المصرية‏,‏ ونجحت نجاحا لا مثيل له في توصيل كل تحقيق الي الحفظ إما لأن الفاعل مجهول او لشيوع المسئولية‏,‏ او لتنازل اصحاب الحق عن حقوقهم تحت ضغوط مادية او ادبية‏..‏ او‏..‏ او‏..‏

لذلك لن يكون مفيدا ان نأخذ الامر بالجدية الواجبة لأننا لن ننتهي الي شئ‏,‏ والأفيد ان ندرس الاسباب ونحاول ان نصل هذه المرة الي السبب الرئيسي الذي يجعل الاهمال واللامبالاة والتهرب من المسئولية سمات غالبة علي الجهاز الاداري كله دون استثناء‏.‏

ولو تأملنا ما نشرته الصحف عن التاريخ الوظيفي لساذق القطار المشئوم فقد نجد الخيط الذي يقودنا الي هذا السبب الرئيسي ففي ملف الخدمة ما يثبت ان السائق سبق ان ارتكب عدة حوادث مماثلة بالضبط لحادث كفر الدوار‏,‏ وليت هذه أول مرة‏,‏ ففي عام‏1990‏ تسبب في سقوط‏3‏ عربات للقطار الذي كان يتولي قيادته بسرعة تزيد علي السرعة المقررة ودخل في طريق غير الطريق المحدد له الي فرع لتحويلة القضبان وكان الفرع مغلقا‏..‏ وكان جزاؤه علي هذه الجريمة خصم يومين من مرتبه‏.‏ وتجاوزت هيئة السكك الحديد عن مغزي الحادث‏,‏ وخطورة السلوك في ذاته‏,‏ وما يمكن ان يحدث اذا تكرر‏..‏ كما تجاوزت عن التكاليف والخسائر التي حدثت نتيجة تلف التحويلة وانقلاب العربات‏..‏ والاهم من ذلك كله انها اعطت رسالة واضحة لهذا السائق ولكل السائقين بأن الدخول في طريق غير مقرر‏,‏ ومخالفة تعليمات السرعة وانقلاب العربات لا يساوي الا خصم اجر يومين فقط لا غير‏,..‏ فهل يمكن ان يكون ذلك رادعا كافيا‏..‏؟ وهل في بال الهيئة ـ او غيرها من الهيئات اخضاع مثل هذا السائق لاختبارات نفسية لدراسة سماته الشخصية‏..‏ من حيث‏:‏ الاهمال‏,‏ او عدم تقدير المسئولية‏,‏ او التهور‏,‏ او الميل للعدوان‏.‏ الخ وهذه امور مقررة في كل الدول المتقدمة كما هي مقررة مثلا بالنسبة للطيارين‏..‏ وهل ضحايا حادث القطار يختلفون عن ضحايا حادث طائرة‏..‏؟ فكيف ندقق في فحص ومتابعة قائدي الطائرات ولا نفعل ذلك بالنسبة لقائدي القطارات وسائقي اتوبيسات النقل العام الذين اثبتت دراسة حديثة ان‏28%‏ مصابون بأمراض نفسية وعصبية مختلفة‏..‏؟‏!‏

ومع ذلك فقد تكررت نفس الجريمة من نفس السائق ذاته في فبراير عام‏1987,‏ ونتيجة لعدم تنظيم السرعة سقطت احدي عربات قطار ضواحي كفر الدوار الذي كان يقوده‏,‏ وكان جزاؤه ايضا خصم يومين من المرتب‏..!‏ وواضح ان هذا السائق بالذات اعتاد ارتكاب نفس الجريمة ربما نتيجة تكوينه الشخصي وربما نتيجةضآلة الجزاء‏,‏ ففي عام‏1987‏ ايضا ـ وفي شهر فبراير ـ كان يقود القطار القادم من محطة العلمين بسرعة تزيد علي السرعة المقررة فأدي ذلك الي سقوط احدي عربات القطار‏..‏ وقبل ذلك في يونيو‏1984‏ سار بالقطار بسرعة تزيد علي المقرر‏..‏ وفي يناير من العام الماضي‏1997‏ ترك العمل دون اذن‏..‏ وفي ابريل‏1997‏ تسبب في سقوط البرج الخلفي من الجرار الذي كان يقوده‏..‏ وفي كل حادث من هذه الحوادث كان الجزاء الذي توقعه الهيئة هو خصم يومين من المرتب‏.‏

الا يستحق الأمر دراسة لاسلوب الادارة ذاته في هيئة السكك الحديدية‏,‏ واسلوب الادارة عموما في سائر المحافظات‏,‏ فقد يقودنا ذلك الي معرفة السبب الحقيقي للاهمال‏,‏ والتسيب‏,‏ والاستهتار‏,‏ واللامبالاة في الاجهزة الحكومية وفي سلوك العاملين فيها‏..‏

واعتقد ان هذه الحادثة ـ وامثالها كثير في كل مكان ق تقريبا مع اختلاف في الشكل والاسلوب ـ ترجع الي سبب جوهري‏,‏ هو ان القوانين الحالية لاتعطي لجهة الادارة السلطة الكاملة في تقدير صلاحية العامل للاستمرار في العمل‏,‏ وتعطي هذه القوانين للعامل حصانة تقارب الحصانة الممنوحة للقضاة ولسفراء الدول واعضاء مجلس الشعب‏.‏ فالعامل محصن من العزل او الفصل‏,‏ وحدود عقوبة الخصم من المرتب مقررة بالقانون وهي ضئيلة اذا قيست بفداحة الجرم‏,‏ وشروط وقف العامل عن العمل محاطة بمحاذير لأن القضاء عادة ما يحكم بالغاء القرارات التي اتخذتها الادارة فلا تجني من سياسة الحزم الا اهتزاز وضعها اكثر بين العاملين‏..‏ واذا وجدت الادارة في نفسها الجرأة علي اتخاذ الاجراءات القانونية لفصل عامل منحرف واخطاؤه واهماله متكررة‏,‏ فإنها معرضة لالغاء هذا القرار بحكم من القضاء‏,‏ ويعود العامل فائزا منتصرا عودة الابطال ويكون قدوة لزملائه وتجد الادارة نفسها في وضع المهزوم بينما المطلوب منها ان تكون هي القيادة الحازمة‏.‏

هذه المشكلة يتحدث عنها كل مسئول في كل موقع‏,‏ ولكن لا احد فإنها يفكر في اتخاذ سياسة جديدة حازمة‏,‏ وذلك بتأثير مرحلة كان يفترض فيها ان العامل دائما علي حق ومظلوم‏,‏ وان الادارة دائما تحيك له المؤامرات وظالمة‏..‏ وهذا افتراض غريب لأن الاصل ان الادارة محايدة وحريصة علي العمل والعمال ومسئولة عن الانتاج والاداء‏,‏ وكل نجاح او فشل منسوب اليها‏,‏ فلا يعقل ان يكون كل مدير عدوا للعاملين معه‏.‏

هذه المشكلة حين تفجرت في وزارة الداخلية واعاد القضاء من رآت الوزارة ان الصالح العام يقض انهاء خدمتهم لاسباب تقدرها وليس من الصالح اعلانها علي الملأ حفاظا علي سمعة وكرامة الشخص المبعد نفسه‏..‏ لم تجد وزارة الداخلية الا تعديل القانون لاعطاء قيادة الوزارة السلطة التقريرية في الابقاء او الاستبعاد بناء علي عوامل موضوعية بالقطع‏..‏ وكانت النتيجة ان عاد الانضباط الي العمل في الوزارة‏..‏ وتمكنت القيادة من احكام السيطرة والرقابة والمحاسبة‏..‏

لماذا لا يحدث نفس الشيئ في كل الجهات‏..‏ ومادمنا قد اتفقنا علي صلاحية هذا النظام في جهاز الشرطة فلماذا لا نعممه في كل الاجهزة فنرحم المواطنين من الموت اهمالا واستهتارا من عامل وضعفا وتهاونا من جهة العمل‏..‏ وتكون جهات العمل هي الفاعل الاصلي في كل جريمة بتوليتها من لا يصلح للحفاظ علي ارواح المواطنين؟


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف