على هامش الندوة الإستراتيجية

كانت الندوة الاستراتيجية التي نظمتها القوات المسلحة عن حرب أكتوبر بعد‏25‏ عاما أبرز ما في الاحتفالات بهذه المناسبة‏,‏ فقد كانت علي مستوي المناسبة من حيث العمق والجدية‏,‏ كما أن تنظيمها تميز بالدقة والإعداد الجيد‏,‏ وأكدت مرة أخري أن القوات المسلحة هي الأقدر علي التخطيط والإعداد للأعمال القومية الكبري‏,‏ وهي الأكثر التزاما بالروح العلمية في العمل وبالموضوعية وعدم التحيز في اختيار أكفأ الخبرات في مختلف التخصصات‏.‏

وكانت الندوة شاملة لكل زوايا الرؤية لهذا الحدث التاريخي الكبير في إطاره العالمي والمحلي‏,‏ وفي السياق الزمني والتاريخي‏,‏ ولم تكن مناسبة احتفالية لتمجيد الذات والتغني بالانجازات وهي كثيرة وتستحق الذكر والتسجيل والتخليد‏..‏ ولكنها كانت جلسات حوار عميق فيه الجدية‏,‏ والموضوعية‏,‏ والالتزام بالمنهج العلمي في التحليل‏.‏

ونجاح هذه الندوة الاستراتيجية يؤكد أهمية الانتقال من مرحلة الاحتفال بذكري نصر أكتوبر بالغناء والموسيقي‏,‏ ومظاهر الابتهاج القومي‏,‏ والتعبير عن المشاعر والوجدان الشعبي‏,‏ الي مرحلة التعبير عن المناسبة بالعقل‏,‏ والتحليل‏,‏ وكذلك الانتقال من الاقتصار علي الحرب ذاتها الي الرؤية المستقبلية لما بعد الحرب وتداعياتها علي الفكر العسكري والسياسي وعلي تطور الأحداث دوليا واقليميا‏,‏ وآثارها في الفكر والسلوك والقيم في المجتمع المصري‏,‏ وفي المجتمع العربي في عمومه‏.‏

وبالطبع ليس هناك مايمنع مستقبلا من الجمع بين الاحتفال بالمهرجانات الشعبية ومواكب الزهور وبعقد هذه الندوة سنويا‏,‏ لكي تصبح ملتقي فكريا يجمع علي صعيد واحد العقول العسكرية والسياسية وقيادات المجتمع والعمل العام‏,‏ والمسئولين التنفيذيين مع ممثلي المجتمع المدني‏,‏ وبذلك تسهم هذه المناسبة في بلورة رأي عام مستنير من ناحية‏,‏ ويمكن من ناحية أخري أو تتطور هذه الندوة الي كيان دائم للدراسات الاستراتيجية والقومية والمستقبلية تجمع المفكرين العسكريين والمدنيين في مختلف التخصصات وتسهم في توحيد الرؤية القومية وتوضيح الرؤية المستقبلية‏,‏ ويمكن أن تقدم مايفيد صانع القرار‏,‏ وتفتح آفاقا للحوار في موضوعات وأفكار وسيناريوهات جديدة تثري الفكر القومي وتبعده عن دائرة التكرار والتجمد عند قوالب فكرية جاهزة‏.‏

وربما يدعو نجاح هذه الندوة القوات المسلحة الي انشاء معهد للأبحاث باسم معهد‏6‏ أكتوبر يجمع كل ماكتب عن هذه الحرب سواء كان منشورا أو غير منشور‏,‏ وتتفرغ له كوادر رفيعة المستوي‏,‏ ويقدم منحة للموهوبين من الباحثين في كل التخصصات لجمع المادة العلمية وشهادات كل من شارك في هذه الحرب بأي قدر من المشاركة ابتداء من القادة حتي أصغر الجنود‏,‏ ومن المدنيين من الوزراء الي المحافظين وأصغر الموظفين الذين شاركوا في المجهود الحربي بأي صورة من الصور‏,‏ ويعدون أبحاثا متخصصة عن حرب أكتوبر ذاتها‏,‏ وما قبلها‏,‏ وما بعدها‏,‏ وعن السيناريوهات المحتملة للمستقبل القريب والبعيد‏,‏ وهكذا تتحول دراسة حرب أكتوبر الي عمل كبير يترك للأجيال القادمة رصيدا يفيدها في تفهم ماجري في عصرنا ولا يسمح بفرصة لتزييف التاريخ كما يحدث عادة في غياب المصادر الأصلية‏,‏ والشهادات‏,‏ والوثائق‏.‏

ويثير نجاح هذه الندوة قضيتين‏:‏ الأولي عبر فيها الرئيس مبارك عن الضمير الشعبي حين توجه بالعتاب الي المثقفين والأدباء والفنانين لأنهم لم يقدموا ابداعا متجددا وغزيرا يليق بعظمة حرب أكتوبر‏..‏ وربما يكون العذر ان الأعمال الضخمة التي في حجم حرب اكتوبر تحتاج الي سنوات طويلة لاستيعابها وهضمها وتفاعلها مع وجدان المبدعين‏,‏ وربما يكون الجيل التالي لجيل اكتوبر هو الأقدر عن التعبير‏..‏ ولعلنا نلاحظ ان الاعمال الفنية الكبري عن الحرب العالمية الثانية أو عن الثورة الفرنسية أو عن الأبطال والشخصيات التاريخية لم تظهر إلا علي يد الجيل التالي ومازالت حتي الآن‏..‏ وربما كان السبب في تأخر الابداع اننا نعتمد علي التليفزيون أكثر مما يجب‏..‏ والتليفزيون بطبيعته وسيلة اعلام وليس وسيلة بحث ودراسة وتحليل‏..‏ وهو وسيلة شعبية تبحث عن التبسيط لتصل الي الملايين وليس وسيلة الصفوة التي تفضل العمق والجدية‏..‏ وهو وسيلة ملاحقة للأحداث الجارية والمناسبات وليس وسيلة للوقوف عند لحظات التاريخ الفاصلة‏,‏ لأنه بطبيعته نهر يتدفق‏,‏ وكل من فيه يلهث للحاق بما يجد من أحداث طارئة‏..‏

ولذلك اعتقد ان عقد ندوة للمبدعين في مختلف فروع الآداب والفنون علي غرار الندوة الاستراتيجية‏,‏ يلتقون فيها مع قادة حرب اكتوبر ويستمعون منهم ويشتركون معهم في حوار ويزورون معهم مواقع الأحداث في سيناء‏..‏ أعتقد ان ذلك يمكن ان يشحن وجدان المبدعين‏,‏ ويثير فيهم دوافع التعبير بالكلمة واللون واللحن وبكل وسائل التعبير‏..‏واعتقد أيضا ان رصد جوائز كبيرة في مسابقات للابداع عن حرب أكتوبر يمكن ان يساعدنا علي الوصول الي مواهب مغمورة لم تجد الفرصة بعد‏,‏ ولعلنا نذكر ان البداية الحقيقة لانطلاق كاتبنا الكبير نجيب محفوظ كانت فوزه بجائزة في مسابقة مجمع اللغة العربية‏.‏

أما القضية الثانية التي أثارتها في نفسي الندوة الاستراتيجية فهي أن هناك جيلا وربما جيلان‏,‏ من المصريين‏,‏ لم يعايشوا هذه الحرب‏,‏ ولايعرفون علي وجه الدقة تفاصيل ماحدث‏..‏ وهؤلاء لاتكفي لهم ندوة استراتيجية هي بطبيعتها ساحة حوار وجدل بين الصفوة‏,‏ ولكنهم يحتاجون الي كتب مبسطة‏,‏ وشرائط فيديو‏,‏ تحكي قصة الحرب بالتفصيل ودون عبارات انشائية أو حماسية‏..‏ لكي يعرف الشباب ماذا جري بالضبط علي امتداد الصراع العربي ـ الاسرائيلي منذ عام‏1897(‏ مؤتمر بازل‏)‏ الي النكبة عام‏1948‏ ثم عدوان‏1956,‏ وبعدها النكسة في‏1967,‏ وتأتي حرب اكتوبر تتويجا لهذه المراحل وتكتسب قيمتها في ضوء ماسبقها‏,‏ وما جاء بعدها‏,‏ باعتبارها حرب تحرير مشروعة لاستعادة الأرض المغتصبة‏,‏ مليئة بالبطولات والتضحيات وقصص الفداء‏,‏ واكتملت لها عوامل النصر‏.‏

ولابد أن تكون هذه السلاسل في متناول كل الأعمار لكي تصاحب روح أكتوبر كل الأجيال القادمة‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف