كلما جاءت ذكري السادس من أكتوبر عادت إلي المصريين والعرب مشاعر الفخر والنصر, وتجددت في وجدانهم أيام المعركة الفاصلة التي حققت أعظم إنجاز إنساني أعاد العرب إلي الحياة بعد موت, وأعاد إليهم الكرامة بعد مذلة الهزيمة.. ومع هذه الذكريات تعود إلي النفوس صور بطولات نادرة وأسماء أبطال عظام.. وتتجد الآمال في قدرة مصر والعرب علي تكرار النصر في كل معركة قادمة في الحرب والسلام.
وأكتوبر هذا العام يختلف عما سبقه.. ليس فقط لأنه يختم حلقة من حلقات التاريخ وهي مرور ربع قرن علي النصر الذي شارك في صنعه كل العرب كل بقدر ما استطاع.. ولكن لأن الذكري تأتي ومصر تعيش في أجواء سياسية ونفسية قريبة من أجواء المعركة الكبري للنصر في عام1973, مع اختلاف في نوعية المعارك, وتغير في ميادين القتال, وظهور أبطال جدد يقودهم صانع بطولات الضربة الجوية التي حددت مسار الحرب وكتبت السطر الأول والأخير في قصة النصر.. فما يحدث في مصر الآن هو معركة عبور كبري بالروح نفسها والتخطيط نفسه والفكر نفسه, مع اختلاف يفرضه اختلاف الزمن ويجعلنا نري أن ما نعيشه هو أكتوبر ولكنه ليس تكرارا أو تقليدا.. إنه أكتوبر جديد..
وبالتحليل الهادئ لخطوات العمل الذي قام به الرئيس مبارك في سنوات حكمه نصل إلي أنه منذ اللحظة الأولي كان أمام هدف لم يتغير ولم يحد عنه, وهو إعادة بناء مصر. فبعد انتصار أكتوبر بقيت حقيقة وهي أن مصر( والعالم العربي معها) مازالت تنتمي إلي العالم الثالث بكل ما يعانيه من مشكلات الديون, والتخلف الصناعي والتكنولوجي, والأمية, وزيادة الاعتماد علي الخارج سواء للمعونات أو الاستيراد وانتشار الأمية وتخلف التعليم.. إلخ.. وكان الهدف هو إعادة البناء الحضاري, والثقافي, والاقتصادي علي النهج نفسه الذي سار عليه في التخطيط لمعركة أكتوبر. وكان ذلك يستلزم أن يسهر القائد ويعمل ليل نهار لإيجاد عوامل النصر الضرورية لهذه المعركة الجديدة.
* كان لابد من غرس عقيدة قتالية في مواجهة تحديات التنمية الاجتماعية والاقتصادية.. إذ لم يعد كافيا توافر إرادة العمل, ونوايا الإخلاص, بل كان ضروريا أن تتبلور هذه الإرادة والنوايا في عقيدة تتغلغل في أعماق النفوس, عقيدة تتعامل مع قضايا التنمية علي أنها حرب.. حرب تستلزم إعلان الطوارئ في صفوف العاملين.. وتحتاج إلي إعداد الدولة للمعركة, وترتيب البيت, وتنظيم الصفوف, واختيار واختبار القيادات الصالحة وتدريبها.. والكوارد الصالحة لقيادة المعارك الكبري عادة ليست كثيرة.. والرجال القادرون علي الصبر وتحمل المشاق للمهام الصعبة هم ندرة في كل مجتمع, والعثور عليهم هو في ذاته معركة كبري.
* وكانت العقبة الأولي والأكبر هي عبور الأزمة الاقتصادية بما تراكم فيها من جبال وصخور.. عجز الموازنة.. التضخم.. ندرة النقد الأجنبي.. تزايد الديون الخارجية وفوائدها.. البطالة.. عجز الميزان التجاري.. إلخ.. مشكلات كبيرة وصعبة لا تقل في صعوبتها عن الحاجز المائي والساتر الترابي وخط بارليف وأسطورة جيش إسرائيل الذي لا يقهر.. وفي أكتوبر هذا العام يحق لنا أن نرفع العلم علي الجانب الآخر ونعلن أننا عبرنا وانتصرنا..!
* ولم يكن العمل سهلا مع المؤامرات المتتالية المخططة التي حيكت خيوطها في الخارج وشكلت لها مراكز قيادة ومراكز عمليات وتمويل.. وكان الإرهاب هو المعبر عن هذه المؤامرات.. لتشويه صورة مصر.. وإجهاض ما يتحقق من نصر, وهدم ما يتم بناؤه بعرق وتضحيات المصريين, وضرب العصب الحساس للاقتصاد المصري.. وكان التغلب علي هذه المؤامرات معركة أخري لا تقل عن الانتصار علي خديعة أنابيب النابالم التي كانت إسرائيل قد أعدتها لتحرق المصريين إذا شرعوا في استرداد حقهم في الأرض والحياة.. وأبطل المصريون المؤامرات وضربوا أذيال الاستعمار تماما كما أبطلوا مفعول أنابيب النابالم..!
* ولم يكن تخطيط معركة إعادة البناء في جانب الإصلاح الاقتصادي وحده, مع صعوبة هذا الجانب صعوبة بالغة, ولكن التخطيط اختار الهدف الصعب وهو إعادة بناء الأجيال الجديدة في الوقت نفسه الذي تجري فيه عملية الإصلاح الاقتصادي, وكان التوفيق بين الهدفين يبدو مستحيلا ولكنه تحقق..الإصلاح الاقتصادي يقتضي ضغط الإنفاق وإعداد الأجيال الجديدة يحتاج إلي زيادة الإنفاق.. وأمكن للقيادة المصرية حل المعادلة الصعبة.. ونجحت في علاج التضخم والعجز في الموازنة, وتقليل الديون الخارجية, والاتجاه إلي زيادة التصدير, وإقامة صناعات ومدن صناعية جديدة.. وفي الوقت نفسه زيادة المدارس الجديدة وتزويدها بالكمبيوتر وتطوير المناهج والاتجاه تدريجيا إلي الإصلاح التربوي والتعليمي الذي احتاج إلي زيادة ميزانية التعليم من800 مليون إلي14 ألف مليون جنيه سنويا.. ولو فكرنا فيما تحقق في التعليم فسنجده معجزة.. وعبورا جديدا.. ولولا أن قاده الرئيس مبارك بنفسه لما تحقق.. ولما استمر العبور حتي الآن برغم وجود الطابور الخامس الذي يسعي إلي قتل النجاح وتشويه الأداء الجيد.. وما أكثر صغار النفوس..!
* وسيذكر التاريخ عبقرية العبور المصري من اقتصاد الدولة إلي اقتصاد السوق.. بهدوء.. وعقلانية.. وتخطيط هادئ.. فلم يحدث ما حدث في روسيا مثلا من هدم كل شيء قبل إقامة البناء الجديد.. ويكفي نجاح خطة مبارك في هذا التحول وقد وقف بصلابة نادرة أمام البنك والصندوق الدولي ونصائحهما التي دمرت روسيا.. بحيث يقول خبراء البنك والصندوق أنهم تعلموا من التجربة المصرية والقيادة المصرية ما جعلهم يغيرون في فلسفة العمل ويعترفون بأن التسرع الذي كانوا يطالبون به كان خطأ كبيرا لم يكن من الممكن تدارك آثاره..
ويأتي أكتوبر الجديد هذا العام وحصيلة هذه المعارك كلها أمامه.. ومن حق الشعب المصري أن يذكر للقائد عمق حكمته وصدق بصيرته.. ويذكر للأشقاء والأصدقاء مواقفهم في الدعم والمساندة.. ويتطلع إلي ما تبقي أمامه من معارك.. وهي معارك كثيرة وصعبة أيضا..
معركة توسيع الرقعة الزراعية لمصر بما يساوي ربع مساحتها الحالية..
ومعركة التصنيع التكنولوجي المتطور..
ومعركة زيادة التصدير..
ثم معركة السلام.. وهي أكبر المعارك..
إننا نسعي إلي فرض السلام في مواجهة حكومة إسرائيلية لا تريد السلام.. وهذه أيضا معركة قد تكون في مثل صعوبة معركة1973.. ولكن السلام سوف ينتصر في النهاية.. والعدل وعودة الحق إلي أصحابه سوف يتحقق.. فهذا هو منطق التاريخ.. بل حتمية التاريخ.. ولم يعرف التاريخ دولة أقيمت علي العدوان والقوة والاغتصاب واستمرت علي هذا الحال طويلا.