أزمة التعليم الجامعى

يبدو أن هناك أزمة قادمة سيواجهها التعليم الجامعي في السنوات القادمة‏,‏ وإذا لم نتنبه لها‏,‏ ونشخص أسبابها تشخيصا صحيحا فقد تزداد الأزمة تعقيدا‏,‏ ونسير في الطريق الخطأ للعلاج‏.‏

بوادر الأزمة ومظاهرها أن طلبة الثانوية العامة يزداد عددهم‏,‏ وهذا طبيعي مع ازدياد عدد السكان‏,‏ وكذلك فإن اعداد الحاصلين منهم علي الدرجات النهائية يزداد‏,‏ وهذا أيضا طبيعي مع ازدياد الاعداد‏,‏ واشتداد المنافسة‏,‏ ووقوف الأسر في موقف قتالي مع أبنائها في معركة الثانوية العامة‏,‏ واعتبار المجتمع أن هذا امتحان مسابقة‏,‏ وليس أمتحانا دراسيا كغيره‏..‏ امتحان يحدد مستقبل الابن عمره كله‏.‏

ولو أضفنا إلي كل ذلك ان ابناء هذا الجيل لديهم طموح لم يكن للأجيال السابقة‏,‏ وهم يرون ان الباب المفتوح للتقدم في المجتمع هو التعليم الجامعي وبدونه لن يجد الشاب مكانا في المقدمة‏.‏

وفي العالم كله اهتمام بالتعليم العالي‏,‏ واعتباره حقا من الحقوق التي لايجوز الانتقاص منها‏,‏ ويكفي ان بلدا مثل إسرائيل تصل نسبة التعليم العالي فيها لـ‏36%‏ بينما النسبة في مصر لاتزيد علي‏14%,‏ وإسرائيل وهي بلد صغير لايتعدي عدد سكانه خمسة ملايين فيها جامعات تزيد علي عدد الجامعات المصرية‏,‏ وسكان مصر‏62‏ مليونا‏,‏ ونسبة الشباب في المجتمع المصري تزيد علي النصف‏.‏

وفي العالم اتجاه إلي فتح قمة الهرم لاستيعاب اعداد أكبر‏,‏ بعد أن كانت فلسفة التربية قائمة علي ان التفوق بالمعدلات الطبيعية محدود جدا وربما يكون نادرا‏,‏ فإن الفلسفة الحديثة قائمة علي ان التفوق ممكن لأعداد كبيرة‏,‏ ويجب اعطاء جميع الشباب فرصة لإظهار هذا التفوق‏,‏ وكلما زاد عدد المتفوقين في مجتمع فإن هذا دليل صحة وحيوية ومؤشر علي قدرة هذا المجتمع علي افراز عناصر لديها إستعداد للابداع والابتكار والقيادة‏.‏

ولكن الامور عندنا أحيانا تختلط‏,‏ الي حد ان يعلن البعض ان زيادة اعداد المتفوقين في الثانوية العامة هذا العام كبير‏,‏ بعد ان توقع هؤلاء ان الغاء نظام التحسين سيؤدي إلي خفض المجاميع‏,‏ ولا أحد يعرف لماذا يريد هؤلاء خفض المجاميع مادام دخول الجامعات لأصحاب المجاميع الاعلي‏,‏ ولماذا لايتحدث أحد عن ابناء القادرين الذين يحصلون علي الثانوية العامة الامريكية والبريطانية ويتمتعون وحدهم بنظام التحسين دون اعتراض من احد‏,‏ ويحصلون علي‏100%‏ دون ان يري احد ان ذلك يمكن ان يكون له نصيب في هذه الأزمة‏.‏

والغريب ان يري البعض ان الحل لأزمة زيادة اعداد المتفوقين هو ان تعيد وزارة التعليم النظر في أسلوب عملها‏,‏ وكأنهم يريدون من الوزارة ان تزيد الامتحانات صعوبة‏,‏ او ان تتدخل في التصحيح لكي تخرج بنتيجة محكومة بقرار مسبق‏,‏ وفي هذا عدوان علي حق التلاميذ وعلي مفهوم العدل والحق ولايليق بوزارة التعليم‏,‏ وفوق ذلك فإنه يعرضها لاحكام بإلغاء النتائج ورقابة القضاء الآن محكمة‏.‏

المفروض ان نعلن سعادتنا لأن ابناءنا بذلوا الجهد وحققوا كل هذا التفوق‏,‏ ولان اعداد المتفوقين في مصر في ازدياد‏,‏ وان هذا الجيل جيل جاد وقادر علي تخطي العقبات القائمة في الدراسة ولايستطيع احد ان يمنعه من ان يتقدم الصفوف‏,‏ والمفروض إلا يجاهر احد بالرغبة في محاربة التفوق أو المطالبة بالحد منه‏.‏

ولو كنا نريد أن نعمل في الاتجاه الصحيح فلابد من ان نوجه طاقتنا في أمرين‏:‏

الأمر الأول‏:‏ هو اصلاح التعليم الجامعي بالمعني الحقيقي والشامل‏,‏ لكي تكون الجامعات الحالية قادرة علي اعداد أجيال للقرن الحادي والعشرين‏.‏

وليس هناك من ينكر ان مسافة التخلف بين نظم التعليم في جامعاتنا‏,‏ ومثيلاتها في أوروبا مسافة واسعة‏,‏ وبعض كليات الجامعات تعاني من نقص هيئات التدريس‏,‏ ومن أسلوب التعليم المدرسي والاعتماد علي الكتاب المقرر في زمن لم يعد التعليم الجامعي إلا ساحة للتدريب علي التفكير‏,‏ والبحث والحصول علي المعلومات بالجهد الشخصي للطالب من المكتبات والأنترنت‏,‏ وتنمية قدرات النقد والتفكير‏.‏

وهذه قضية كبيرة تحتاج إلي مناقشة صريحة وبدون مجاملة علي حساب المصلحة العامة‏.‏

والأمر الثاني هو ان مصر تحتاج إلي جامعات جديدة‏..‏ ولابد من التوسع في انشاء كليات جديدة‏,‏ والجميع يعلم ذلك ويشجع انشاء جامعات خاصة بمصاريف يعجز عنها أبناء الطبقة المتوسطة مع ان ابناء هذه الطبقة يمثلون مخزون المواهب والقدرات في المجتمع كما أنهم يتميزون بالطموح‏,‏ والاستعداد لبذل الجهد لتحقيق هذا الطموح‏,‏ ولايعتمدون كأبناء الطبقة الجديدة‏..‏ علي نفوذ أو ثروة الآباء‏,‏ ويدركون أنهم لايملكون سلاحا إلا التفوق بالعمل الشاق‏,‏ فلماذا يفكر البعض في قتل هذا الطموح المشروع الذي لاتتقدم التجمعات بدونه‏.‏

واذا كانت مشكلتنا الآن هي التمويل‏,‏ فقد فتحنا الابواب للجامعات الخاصة‏,‏ ولكن تبقي الجامعات الحكومية هي الأساس الذي تقوم عليه النهضة الحقيقية كما يحدث في أوروبا وأمريكا‏,‏ فالجامعات الخاصة لم تقلل من حجم وانتشار وأهمية الجامعات الحكومية‏,‏ ولكن الحلقة الناقصة عندنا هي عدم وجود مبادرات شعبية كافية لتمويل التعليم الجامعي‏,‏ مع ان التبرعات مصدر أساسي لتمويل الجامعات والبحث العلمي في أوروبا وأمريكا‏.‏

ولو فكرنا كيف تحرك المجتمع ليشارك بإيجابية أكثر سنجد الحل لازمة التعليم الجامعي بدلا من الحديث عن قتل المواهب والتطلعات‏,‏ ونكون مثل الاب الذي يسعي إلي افساد شهية ابنائه للطعام بدلا من ان يسعي إلي توفير مايكفيهم من حقهم المشروع منه‏,‏ وفي أمور المستقبل أرجو الا يضل بنا الاجتهاد‏.‏


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف