في ذكري رحيل يوسف ادريس تداعت في النفس خواطر عن هذا الفارس الشجاع الذي خاض المعارك ولم يتردد, واحترقت اصابعه واعصابه من لهيب الكلمات التي كان يكتبها ليوقظ المجتمع ويحول الكتابة من وسيلة للتسلية وتزجية اوقات الفراغ, إلي سلاح ضد التخلف والانحراف. وتذكرت اشهر مقال له بعنوان أهمية ان نتثقف ياناس! اثار ضجة كبري في بداية الثمانينات حتي جعله عنوانا لكتاب, فعدت إليه لأري: هل نحقق حلم الكاتب والفنان الكبير ام ذهبت جهوده ادراج الرياح.
في هذا المقال الذي كان يعتبره يوسف ادريس رؤية من أهم مكونات حياته ككاتب قدم تحليلا لحالة التدهور الثقافي والاجتماعي وارتباط تدهور الثقافة بتدهور المجتمع, ويتساءل لماذا كانت كلمة مثقف علامة علي ان المواطن صاحب مقام رفيع, وكان ذلك يعكس احترام الثقافة والمثقفين كجزء لايتجزأ من قيم الشعب المصري, ثم انقلبت امورنا فاصبحت كلمة مثقف تقال من باب التوبيخ والتريقة. ولوكان بيننا اليوم لأشار إلي نتائج اختبارات المتقدمين لوظائف مقدمي برامج في الاذاعة والتليفزيون وفي السلك الدبلوماسي بالخارجية التي لم ينجح فيها احد من خريجي الجامعات لضعف المستوي الثقافي العام للمتقدمين, ولكنه اشار إلي برنامج كان يقدمه التليفزيون علي هيئة امتحان في المعلومات, وفي كل الحلقات كانت المعلومات العامة للمشتركين جميعا تساوي صفرا, ولاينجحون إلا في الاجابة علي السؤال الخاص بالامثلة الشعبية, ومعني هذا انهم لايقرأون, وانما يتلقون المعرفة سماعا, وربما من امهاتهم وخالاتهم فقط.
وانتهي تحليل يوسف ادريس لاسباب هذه الظاهرة الخطيرة إلي توجيه الاتهام إلي ثورة يوليو, رغم انه من كبار المثقفين الذين ساندوا الثورة واعطاها المضمون الفكري والروحي.. ولكنه ـ فيما يبدو ـ اكتشف بعد سنوات من المعايشة والتأييد للثورة اكتشف انها دفعت إلي الساحة جماهير غفيرة من الطبقة المتوسطة الصغيرة التي كانت تحيا علي هامش الحياة, وفتحت الثورة لهذه الطبقة أوسع المجالات ولكنها لم توفر لها ماهو أهم, وهو الاشعاع الثقافي الذي يجعلها متحضرة منظمة, وكلما ارتفعت اقتصاديا ارتفعت سلوكيا وفكريا وانسانيا, وقد اهتمت الثورة بالتعليم ولم تهتم بالثقافة وتعليم بلا ثقافة لايتعدي خلق كأئنات ميكانيكية لاتجيد إلا صنعته او حرفة, والتعليم تدريب علي المهارات العقلية واليدوية اما الثقافة فهي تدريب العقل نفسه, وبدونها يتحول الانسان إلي حيوان آكل شارب نائم متناسل, وبدون الثقافة للانسان تصبح أية دابة احسن منه, فهو دونا عن الدابة مزود بعقل لابد ان يعمل, وإذا لم يعمل في اتجاه صالح فلابد ان يعمل في اتجاه خاطئ, واحيانا اجرامي! وفي عصر الانفتاح رأي يوسف ادريس ان جميع الصواميل حلت, استيراد كما تشاء, سوق سوداء, رشاوي, اختلاسات, مادمت شاطرا وتستطيع إلا تقع تحت طائلة القانون فافعل مابدا لك, وحتي لو وقعت تحت طائلة القانون فتح مخك يااخي تفوت! والطبقة المتوسطة بتكوينها متمردة, تخاف ولاتختشي, هوايتها الخروج من القانون, والتنافس الرهيب يسود فيها ويجعل الانانية عندها هي القاعدة والانفلات هو القانون, ولذلك فكل الدول حتي الدول الرأسمالية تسن القوانين لمنع هذه الطبقة من طغيان بعضها علي البعض الاخر, وترفع مستواها الثقافي في نفس الوقت لان الثقافة هي التي تحد من نهم تلك الطبقة الجشعة وجبروت كثير من افردها.
وكان يوسف ادريس غاضبا من ضعف اداء المؤسسات الثقافية التي انشأتها الثورة بعد سنوات من قيامها مثل شركات القطاع العام للسينما وهيئات المسرح والكتاب واكاديمية الفنون التي ماكادت تقف علي اقدامها حتي تكفلت هزيمة1967 وماتلاها من ازمات باغلاق ابوابها أو كادت, وهكذا بقيت روح هذا الشعب الثقافية وديعة غير محافظ عليها في ايدي القطاع الخاص الذي احال المسرح إلي كباريه, واحال مسلسلات التليفزيون إلي وسيلة لانقاص وزن العقل, ومات الكتاب ولم تعد مصر عاصمة الكتاب العربي, وماتت المجلات الثقافية والعلمية, وتحولت الجامعات من دور للثقافة العليا إلي مدارس متوسطة يتخرج فيها انصاف حرفيين بدرجة بكالوريوس وليسانس. وتحولت هيئة الكتاب إلي ملجأ لالاف الموظفين دون ان يجد كبار أو شباب الكتاب فرصة لنشر كتبهم, واصبح المجلس الأعلي للثقافة مجرد مصلحة حكومية مكدسة بالموظفين, وهذا هو السبب فيما نشكو منه من السلبية والفوضي وانعدام الضمير والقيم وانتشار الفساد والمحسوبية والازدحام الحيواني والهرجلة والارتجال. تقريبا كل شكوانا الخاصة بالانسان سببها اننا تحولنا إلي مجتمع جاهل حتي وان كان بعضه متعلما.. مجتمع غير واع أو مدرك, أي غير مثقف, مجتمع همه علي بطنه, ليس فيه صفوة قائدة مثقفة محترمة.
هذه الرؤية مع مافيها من تحامل وتشاوم ومبالغة إلا انها في مجملها صحيحة وتنطبق علي المرحلة التي كان يكتب عنها هذا المفكر الكبير. ولو امتد العمر بيوسف ادريس لرأي ان هناك امورا تغيرت. هيئة الكتاب اصبحت تقدم الاف الكتب التي أسهمت في تكوين العقل العربي, وآلاف الكتب الجديدة لكبار وشبان الكتاب, وهيئة المسرح اعادت الاضواء إلي المسرح الجاد, والدولة تخصص الملايين للمهرجانات والمسابقات لتنشيط الحياة الثقافة وجذب الاجيال الجديدة إلي ينابيع الثقافة الجادة.
وتأمل هذه الرؤية الواضحة الشجاعة لكاتبنا الكبير تجعلنا ندرك اهمية مشروع القراءة للجميع. لكي نفهم انه ليس مجرد مشروع لاصدار كتب رفيعة المستوي ورخيصة الثمن, ولكنه مشروع حضاري كبير وواسع المدي يهدف أولا إلي اعادة الثقافة إلي مكانها لكي لاتنتعش الجوانب الاقتصادية في المجتمع ويتحلل العمود الفقري الثقافي والروحي, ولكي لاتنشأ طبقة لديها الثروة بدون محتوي روحي أو ثقافي أو حضاري. ولكي تنشأ اجيال جديدة تعرف قيمة الثقافة, وتعرف ان الثقافة ليست ترفا عقليا ولكنها ضرورة بشرية مثل الخبز والحرية الهدف هو تكوين اجيال من المصريين تعايش العصر, وترتبط بالجذور الروحية والثقافية ويمتليء وجدانها بتراث الأمة, وتمتلك القدرة علي التفكير العلمي والمستقبلي, وتربط ذلك بالعمل وبالسلوك اليومي المتحضر الذي يليق بأمة مثقفة.
كم وددت ان اقول ليوسف ادريس وانا اضع وردة علي قبره في يوم ذكراه ان صحيته لم تذهب في الهواء وان حلمه يتحقق الآن لكي تهدأ روحه وتطمئن إلي ان مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها. وهكذا تحقق وعد ربنا لصاحب القلم العظيم كما يتحقق الوعد لكل صاحب كلمة مخلصة لوجه الله والوطن.