الصحافة و تقاليد المهنة الغائبة أحيانا

ازدادت الشكوي من تجاوزات غير مقبولة في بعض الصحف‏,‏ وكلما هبت العاصفة علي هذه الصحف بالنقد والرفض من المجتمع تظاهرت بالاستقامة الي أن تمر العاصفة‏,‏ ثم تعود الي سيرتها الأولي‏..‏ والشكوي الآن هي الشكوي المتكررة منذ سنوات‏..‏ الاثارة‏..‏ سواء كانت إثارة المراهقين بالموضوعات والصور الجنسية الفاضحة‏..‏ أو إثارة الكبار بالتفنن في عرض أخبار الجريمة دون اعتبار للحق الانساني والقانوني للمتهم‏,‏ أو للواجب الذي يفرضه القانون بعدم التأثير بالنشر علي القضاة وجهات التحقيق‏.‏

ويكفي تحليل صفحات الحوادث في يوم واحد لنري كيف أصبحت هذه الصحف تستخدم فنون الإثارة لتقديم الجريمة في صورة درامية وبكل التفاصيل بما فيها جرائم الاغتصاب‏,‏ والخيانة الزوجية‏,‏ وهتك العرض‏,‏ والرقيق الأبيض‏,‏ وفي كل هذه الحالات تنشر هذه الصحف صور وأسماء المتهمين علي أنهم مجرمون‏,‏ متجاهلة المبدأ القانوني ان المتهم بريء الي أن تثبت ادانته‏,‏ وتروي الجريمة بما يؤثر في وجدان القاريء بأن المتهم ارتكب الجريمة فعلا علي هذا النحو‏,‏ ولا سبيل الي التشكيك في هذه الرواية بعد ذلك‏,‏ ولاسبيل الي تبرئة المتهم‏..‏ ودون مراعاة أثر النشر بهذه الصورة علي المتهم وموقفه القانوني في التحقيق والمحاكمة‏..‏ ومدي الاساءة والضرر الاجتماعي الذي يلحقه بعد أن نشر اسمه وصورته وسيف الاتهام مسلط عليه‏..‏ وبعد اقتناع الرأي العام بالادانة يصعب تقبل الحكم اذا صدر بالبراءة‏..‏

من الخطأ أن تدخل الصحافة المحاكم واقسام الشرطة والنيابة لتغتصب سلطة القضاء‏,‏ وتصدر الأحكام علي الناس وتسيء اليهم والي أسرهم وتحطم مستقبلهم وتلصق بهم العار هم وأبنائهم أيضا قبل أن يثبت الاتهام‏,‏ وقبل سماع دفاع المتهم‏,‏ وسماع الشهود‏,‏ وتمحيص الادلة‏.‏

فكيف تسمح صحيفة لنفسها ـ مثلا ـ بنشر قصة وفاة فتاة بعد اجراء عملية جراحية دقيقة بأسلوب يوحي بإثارة الشبهات حول السلوك الاخلاقي لهذه الفتاة‏,‏ ولا تنشرها مجهلة‏,‏ ولكنها تنشر اسم الفتاة وصورتها‏,‏ أو حين تنشر تفاصيل اصابة فنانة في حادث تصادم بأسلوب يوحي بأنها كانت تحت تأثير المخدرات‏,‏ أو تفاصيل اتهام فنانة أخري في شبكة آداب‏,‏ ثم يتبين في النهاية وبعد التحقيقات أن هذه الاتهامات غير صحيحة‏,‏ فكيف يمكن ازالة آثار هذا العدوان علي الشخصية‏..‏

وهناك جريمة اخلاقية وقانونية المفروض ألا تغتفر‏,‏ يسمونها جريمة اغتيال الشخصية وهي جريمة قتل معنوي للانسان‏,‏ بتوجيه الطعنات الي شرفه وكرامته ومكانته بين الناس‏,‏ ولو قمنا بتحليل بعض الصحف فسوف نجدها ترتكب هذه الجريمة ببساطة وكأنها حق من حقوقها‏..‏ وهي مستعدة للصراخ اذا حوسبت علي ذلك بأنه اعتداء علي حرية الصحافة واتجاه الي العودة الي الشمولية وفرض الرقابة ومحاكمة الفكر‏..!‏ وهذه طبعا كلمات حق يراد بها باطل‏.‏

فهناك فرق بين الخبر والرأي‏..‏ الرأي ليس عليه حساب‏..‏ وصاحبه حر فيه إلا اذا كان في ثنايا هذا الرأي اعتداء علي حرية وحقوق انسان‏..‏ أما الخبر فإنه موضع سؤال ومحاسبة‏..‏ فالخبر الكاذب لابد ان يكون عليه حساب‏..‏ فإن كان واضحا فيه حسن النية فإن التصحيح والاعتذار واجبان علي الصحيفة‏,‏ وان كان سوء القصد واضحا‏,‏ أو كان وراء النشر الذي يسيء مصلحة أو دوافع شخصية فلا يستطيع أحد أن يدافع عن الصحفي الذي يرتكب هذه الجريمة المهنية‏.‏

وفي فترة من فترات الطفولة المهنية للصحافة‏,‏ كانت الصحافة وسيلة ابتزاز وارتزاق‏,‏ وكانت الحملات الصحفية وراءها غالبا دوافع غير شريفة‏,‏ وكان العذر ان مهنة الصحافة كانت بلا ضوابط‏,‏ ولا نقابة‏,‏ ولا شروط لممارسة المهنة‏,‏ وكان الصحفيون في أسفل السلم من حيث المكانة الاجتماعية‏,‏ وأكثرهم كان بلا مؤهلات ولا موهبة ولا خبرة مهنية‏..‏ أما الآن وقد أصبحت مهنة الصحافة في مقدمة الصفوف‏..‏ وتحظي باحترام المجتمع‏..‏ وأصبح للصحفي موقع متميز في المجتمع‏..‏ وينظر اليه علي انه صاحب رسالة‏,‏ وفوق الشبهات‏,‏ ولكلمته قيمة وتأثير‏..‏ اذا كانت هذه هي مكانة الصحفي الآن فلم يعد مقبولا ظهور هذه الممارسات غير المسئولة‏..‏ أو غير المنضبطة‏..‏ أو غير الاخلاقية‏..‏ لم يعد مقبولا ان يعطي صحفي الابتزاز بكلمة‏..‏ ولم يعد مقبولا أن يعطي صحفي لنفسه الحق في اغتيال شخصية الآخرين بغير دليل يقيني‏..‏ ولم يعد مقبولا التستر وراء شعار الدفاع عن حرية الصحافة‏..‏ ليكون دفاعا عن حرية الانحراف بأي صورة من الصور‏..‏ والأهم من ذلك انه لم يعد مقبولا من الصحافة ان تكون منبرا لمحاربة الفساد ثم تسمح بوجود فساد داخلها مهما يكن صغيرا ومحدودا‏..‏ ولم يعد مسموحا أن تكون الصحافة المدافعة عن الحريات أن تعتدي علي حريات الناس وحقوقهم وسمعتهم‏..‏

كذلك ليس مقبولا ان تسمح بعض الصحف لنفسها بأن تكون مدارس لتعليم الشباب الانحراف والجريمة‏..‏ وما أكثر الجرائم التي اعترف مرتكبوها بأنهم ارتكبوها تقليدا لما قرأوه في الصحف أو شاهدوه في التليفزيون‏..‏ وفي بعض الأحيان تقوم الصحافة والتليفزيون بتعليم الناس كيفية ارتكاب الجرائم دون ان يكتشف البوليس المجرم‏..‏ وكيفية استخدام وسائل للقتل أو وسائل لمحو آثار الجريمة‏..‏ أو وسائل للايقاع بالشهود والتشكيك في شهادتهم‏..‏ وكم من المجرمين الصغار اعترفوا بأنهم تعلموا سرقة السيارات والخزائن واختطاف الفتيات من التليفزيون‏.‏

والصحافة هي التي تدافع عن حق النقد‏..‏ ومن باب أولي يجب أن تمارس النقد الذاتي‏..‏ وتوجه النقد الي نفسها‏..‏ دون اللجوء الي أساليب الدفاع الأعمي بالحق وبالباطل‏..‏ ودون استخدام سياسة انكار الخطأ وادعاء الكمال‏..‏

التصحيح يجب أن يكون من داخل الصحافة نفسها‏..‏ وليس واردا‏..‏ ولا يخطر علي بال أحد‏..‏ أن يكون التصحيح بفرض قيود علي حرية الصحافة‏..‏ بل المطلوب مزيد من حرية الرأي وحرية التعبير في اطار المسئولية الاجتماعية‏,‏ والالتزام بالقيم الاخلاقية‏,‏ وفرض سلطان الضمير أولا وثانيا ثم سلطان القانون أخيرا‏..‏

والمطلوب وقفة من الصحفيين مع أنفسهم‏,‏ ومع ضمائرهم‏,‏ للعودة الي الالتزام بتقاليد هذه المهنة المسئولة عن قيادة الرأي العام ومحاربة الفساد وإنارة الطريق للاصلاح ومساندة المجتمع في مرحلة تحوله من التخلف الي التقدم‏.‏

المطلوب ان يتذكر الصحفيون دائما أن الصحافة رسالة‏..‏ ويجب أن يكون سلوكهم دائما سلوك أصحاب الرسالات دون اعوجاج‏.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف