أجيال أكتوبر

أحيانا يردد الكتاب أقوالا يتناقلونها دون مراجعة‏,‏ فتصبح علي أقلامهم وكأنها من الحقائق التي يسلمون بها مثل قولهم‏:‏ أين ذهبت روح أكتوبر‏..‏ والسؤال ينطوي علي التسليم بأن روح الوطنية‏,‏ والولاء‏,‏ والاستعداد للتضحية‏,‏ والانتماء للأرض والوطن ظهرت كلها في الحرب وكانت أهم عوامل النصر‏..‏ ثم توارت بعد ذلك‏..‏ والآنء جاء الوقت لكشف هذا القول الذي يستند الي تصورات أو أوهام في أذهان البعض‏,‏ ولا يستند الي الواقع‏.‏

وخلال الاحتفالات التي أقيمت في طول البلاد وعرضها بمناسبة ذكري اليوبيل الفضي للانتصار اتيح لي أن التقي مع مجموعات من الاطفال والشباب‏,‏ ولمست بنفسي كيف أن روح أكتوبر متغلغلة في كيان أجيال متتالية من المصريين‏,‏ وأن جذوة الوطنية مشتعلة في صدور الصغار والكبار‏,‏ وأن روح أكتوبر حية تنتظر لحظة تتفجر فيها وتعبر عن نفسها‏.‏

وكم أود أن يزور كل مواطن معرض إنجازات أكتوبر المقام حاليا في أرض المعارض‏,‏ ويستمع إلي تعلقات زواره من الشباب علي الأعمال الكبري التي تمت في مصر ليطمئن إلي أن وعي الشباب بقضايا وطنه علي درجة عالية من النضج‏..‏

وكم أود أيضا أن يزور كل مواطن المعرض الذي تقيمه وزارة التربية والتعليم في مقر اتحاد الطلاب‏,‏ وفيه عشرات القصص والأشعار والمقاولات التي كتبها أطفال في المرحلة الابتدائية‏,‏ وصبية وفتيات في الإعدادي‏,‏ وشباب في الثانوي‏,‏ ولوحات فنية‏,‏ ونماذج مجسمة لمواقع القتال‏,‏ وكل هذا الأعمال تكشف حقيقتين‏,‏ الحقيقة الأولي أن هؤلاء التلاميذ رغم‏-‏ البعد الزمني‏-‏ عاشوا تجربة أكتوبر بكل أبعادها السياسية والعسكرية حتي تفاصيل المعارك وأماكنها‏,‏ واختلطت وقائع الحرب ومعاني النصر بوجدانهم‏,‏ وعبروا عنها بتلقائية وصدق يثيران الإعجاب‏.‏

وهذا المعرض أقنعني بعدم صواب الرأي الذي يقول إن روح أكتوبر ظهرت في الجيل الذي عاش هزيمة يونيو‏,‏ واشعلت فيها الهزيمة نار الثأر وارادة الانتصار‏,‏ ثم جاء جيل ثان‏,‏ وجيل ثالث خلال هذه السنوات‏,‏ فبعدت الشقة بين هذين الجيلين وبين جيل أكتوبر‏,‏ ونصف الشعب المصري أقل من‏30‏ سنة‏,‏ وبالتالي ليس في وعيه منها إلا عبارات حماسية يرددها الآباء والأجداد‏.‏

آمنت بأن هذا الرأي خاطيء‏..‏ وأن الارتباط بنصر أكتوبر في الأجيال التالية أكبر مما في الجيل الذي شهد الهزيمة والنصر‏,‏ وشارك فيهما بصورة ما وعايش الانفعالات التي صاحبتهما‏..‏ وليس هذا شيئا غريبا‏..‏ فالمؤمنون الأكثر إيمانا اليوم لم يشهدوا عصر الرسالة والرسول‏..‏ والمعتنقون لفكرة أو فلسفة أو نظرية بعد أجيال من رحيل أصحابها قد يكونون أكثر تفهما وحماسا لها ممن عايشوا أصحابها وشهدوا ظهورها‏..‏ وبعض التلاميذ قد يكونون أكثر حرصا علي المباديء والقيم من أساتذتهم الذين علموهم هذه المباديء‏.‏

وعندما طالعت بعض القصص والمقالات وجدت فيها معاني صادقة من تلاميذ لم يصلوا بعد رلي سن النفاق‏..‏ فهم يعبرون ببساطة عن حب الوطن‏,‏ وتقديس الاستشهاد دفاعا عن أرضه وحريته وكرامته‏,‏ والإصرار علي أن يكونوا هم حاملي الراية وحراس الوطن من مكائد الأعداء كما قال بعضهم‏.‏ وبعض الأطفال تحدث في مقالاته عن الشهداء وكأنه كان يتمني أن يكون معهم‏,‏ وبعضهم عاد الي التاريخ ليسترجع المعارك التي خاضها الشعب المصري علي امتداد العصور دفاعا عن حرية وطنه منذ غزو الهكسوس الي الغزو الإسرائيلي‏,‏ وبعضهم عبر في قصصه عن المشاعر المتناقضة لأم شهيد بين الحزن والفخر‏,‏ أو عن قصة الشهيد الذي ترك عروسه ليزف إلي السماء وهو يفكر فيها ولكن دون ندم علي التضحية بالروح‏,‏ أو الشاب الخجول الذي تحول في المعركة إلي أسد يزأر لا يشعر بالخوف ولا يخشي الدبابة‏..‏ وهكذا انفعل الاطفال مع المشاعر الإنسانية لمقاتلي أكتوبر‏,‏ وتوحدوا معهم في الأفكار والعواطف‏,‏ وأصبح أبطال أكتوبر الأحياء والشهداء هم النموذج والمثل الأعلي والقدوة‏.‏

والذين يرون أن الشباب لا يجد القدوة عليهم أن يزوروا هذا المعرض ليروا أنهم في واد والشباب في واد آخر‏,‏ فالشباب وجد القدوة في أبطال أكتوبر‏,‏ وأكثرهم يرفض نماذج التطرف والانحراف التي ظهرت في المجتمع بعد ذلك نتيجة عوامل دخيلة وطارئة ليست أصيلة في المجتمع المصري‏.‏

أما الحقيقة الثانية في هذا المعرص فهي أن الجيل الجديد ليس كله منحرفا‏,‏ أو متطرفا‏,‏ أو سطحيا‏,‏ كما يردد البعض‏,‏ استنادا الي بعض الحوادث والجرائم التي تطفوا علي السطح بين حين وآخر‏,‏ ففي تعبير هؤلاء الصغار نلمس الجدية والقيم الوطنية والأخلاقية‏,‏ وغريب أن يحرص البعض علي أن يسلط الأضواء علي المنحرفين ولا يسلط الضوء علي أصحاب المواهب والرافضين لكل صور الانحراف مع أن المنحرفين والمتطرفين قلة مهما بلغ عددهم لا تقاس بالملايين من الشباب الجاد المخلص المستقيم الذي يفهم الدين فهما حقيقيا معتدلا بعيدا عن الضلال‏,‏ ويفهم الوطنية بمعناها الحقيقي ويدرك أنها العطاء والتضحية والبناء وليس الهدم أو التخريب‏..‏ وهذا ما عبر عنه التلاميذ في أعمالهم الأدبية والفنية‏.‏

وخلال الاحتفالات التقيت أيضا بمجموعات من الشباب من المحافظات‏,‏ وكان الحوار معهم مفاجأة لي‏,‏ لأني وجدت فيهم رغبة في الفهم‏,‏ وتعطشا للحوار الموضوعي‏,‏ كما وجدت لديهم اسئلة تضيق بها صدورهم‏,‏ ويبحثون عمن يفتحون لهم قلوبهم‏,‏ ويكشفون أمامهم حقيقة مخاوفهم وحيرتهم وتساؤلاتهم‏..‏ وكان الحوار معهم جادا وممتعا‏..‏

وخلاصة ما وصلت إليه بعد هذه اللقاءات أن الأجيال الجديدة بخير‏,‏ وإن كانت القلة منحرفة فالانحراف استثناء ندينه ونرفضه‏,‏ ولابد أن نقوم بواجبنا في تقويمه‏,‏ ويمكن إذا بذلنا الجهد المناسب أن نصل إلي النجاح في الوقاية والعلاج‏,‏ بشرط أن نفهم الشباب‏,‏ وطبيعة مرحلته السنية بما فيها من فوران وانفعالات ومثالية وبحث عن الكمال‏..‏

ومازال الشباب يحتاج إلي رعايه أكثر جدية واستمرارا‏..‏ رعاية لروحه وعقله وشخصيته‏..‏ ورعاية للملايين في المدن والقري وليس العشرات من نجوم الفرق الرياضية الذين يأخذون الكثير من المال والاهتمام علي حساب الملايين الأكثر احتياجا‏.


 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف