آخر الحروب

عد نصر أكتوبر التي غيرت موازين القوي في المنطقة أعقبتها زيارة السادات للقدس‏.‏

وعندما أقدم الرئيس السادات علي أكثر خطوات القرن العشرين جرأة وصعوبة بزيارة إسرائيل‏,‏ كانت هذه القفزة الهائلة بداية تحول استراتيجي في المواقف والسياسات‏,‏ وكانت أكبر دليل علي صدق النيات من الجانبين المصري والعربي علي إنهاء عصر من العداوات والحروب‏,‏ وقد اختار السادات الصعب ـ نفسيا وسياسيا ـ بأن يذهب بنفسه إليإسرائيل‏,‏ ليقول للإسرائيليين وللعالم أنه لم يعد هناك أي مجال للشك‏..‏ أو التردد في إقامة سلام حقيقي يرضي جميع الأطراف ويحقق لها الأمن ويتفق مع تطلعاتها المشروعة‏.‏

وكان انتصار العسكرية المصرية في حرب أكتوبر هو السند الحقيقي للسادات في القيام بهذه الخطوة التاريخية وما تلاها من اتفاق كامب ديفيد عام‏1977‏ ثم معاهدة السلام عام‏1978‏ وعلي الجانب الإسرائيلي كانت القيادات الإسرائيلية ـ فيما يبدو ـ متفهمة لأهمية الفرصة النادرة التي أتاحها لها السادات لتفوز إسرائيل بالقبول العربي وشرعية الوجود من ناحية‏,‏ وإقامة جسور الثقة والعلامات السوية بين إسرائيل والعرب ـ اقتصاديا وسياسيا وثقافيا ـ من ناحية أخري‏.‏

ولكن السلام لا يتحقق بحسن النيات والتقدم خطوات واسعة من جانب واحد فقط‏,‏ بينما حدث تغير في المناخ السياسي في إسرائيلي من الرغبة في السلام إلي الرغبة في التوسع والاستعمار واغتصاب الأرض العربية بحجة أن أمن إسرائيل هو القضية الأولي والأخيرة التي يجب أن تنشغل بها كل الأطراف الضالعة في عملية السلام‏,‏ بحيث تكون مسئولية أمريكا والعرب والفلسطينيين العرب ضمان الأمن لإسرائيل وفقا للمفهوم الجديد‏,‏ الذي يطرحه نيتانياهو وحكومته‏.‏

وإذا كان العرب قد تعاملوا بإخلاص بالغ مع قضية السلام‏,‏ فإن إسرائيل لم تفعل ذلك‏,‏ وقامت بخطوات تراجعت فيها عن تعهداتها واتفاقاتها‏,‏ وغرست في نفوس العرب بذور عدم الثقة‏,‏ وبدلا من أن تشارك مع العرب في بناء السلام علي أساس يضمن له الاستمرار والدوام‏,‏ بدأت في خلخلة هذا الأساس‏.‏

فسياسة التوسع في بناء المستوطنات داخل مناطق الوجود الفلسطيني ليس إلا مسمار جحا لزعزعة الأمن والاستقرار في الأراضي الفلسطينية‏,‏ وإعلانا يصل إلي درجة التحدي الساخر بعزم إسرائيل علي الاستمرار في اغتصاب الأرض العربية‏,‏ وإصرارها علي عدم الوقف عند حدود معلنة‏,‏ ومعترف بها‏,‏ وليس لهذا إلا معني واحد هو أن الوجود العربي ذاته سوف يكون في خطر حقيقي إذا استمرت هذه السياسة وفي النهاية‏,‏ فهي سياسة ضد السلام وليست مع السلام‏,‏ ولا ننسي أن البداية كانت بمنحة‏10‏ مليارات دولار من أمريكا أعطاها لها ريجان بحجة أن ذلك يشجع إسرائيل علي المضي في عملية السلام‏.‏

وسياسة تكديس السلاح في إسرائيل لا تبعث علي الطمأنينة‏,‏ فإسرائيل وحدها هي التي تسمح لها أمريكا والدول الكبري بامتلاك أسلحة نووية وبيولوجية وكيميائية‏,‏ وهي الدولة الوحيدة التي لا توقع معاهدات عدم الانتشار وعدم إجراء تجارب نووية‏,‏ وهي الدولة الوحيدة التي لا تخضع للتفتيش أو الرقابة من أي جهة دولية‏,‏ بينما تضمن لها أمريكا القضاء علي أي امكان أو قدرة نووية لدي العرب حتي ولو كانت مجرد الحصول علي معلومات أو علي بعض مواد بدائية‏,‏ وما حدث مع العراق يكفي ويزيد‏,‏ وقد ازدادت الخطورة مع الاتفاق الاستراتيجي بين أمريكا وإسرائيل‏,‏ ثم بقرار أمريكا بتخزين أسلحتها في إسرائيل‏,‏ وباتفاقات مشتركة لتصنيع الأسلحة الخطيرة‏,‏ وتزويد إسرائيل بإمكانات تصنيع صواريخ بعيدة المدي‏,‏ وأخيرا بالاتفاق الذي أعلن منذ أيام بمنح إسرائيل‏90‏ طائرة مقاتلة من أحدث الإنتاج الأمريكي‏.‏

وأهم من كل ذلك أن القرار الأمريكي بمنح إسرائيل‏90‏ طائرة مقاتلة أعلنت الإدارة الأمريكية‏3‏ مبررات لهذا القرار أولها‏:‏ حرص أمريكا علي تفوق إسرائيل عسكريا علي كل دول الشرق الأوسط وثانيها‏:‏ حماية أمن إسرائيل وثالثها تشجيع حكومة إسرائيل علي مضي في عملية السلام‏.‏

ثم جاء التحالف بين إسرائيل وتركيا ليضيف بعدا جديدا يكشف نيات إسرائيل في تطويق الدول العربية وفرض حصارعليها وإعادة الحياة إلي المشروع الأمريكي القديم‏,‏ الذي اشعل النار في المنطقة وهو مشروع حلف الشرق الأوسط‏,‏ الذي اشتهر باسم حلف بغداد أيام نوري السعيد‏.‏

ولو مضينا في حصر الأفعال والمواقف الإسرائيلية التي تمثل ترجعا ونكوصا عن السلام‏,‏ فسوف نحتاج إلي مجلدات‏,‏ ولكن المهم أن نصل إلي حقيقة لا يختلف عليها عاقلان وهي أن السلام بين طرفين لا يمكن أن يقوم‏,‏ وأهم من ذلك لا يمكن أن يدوم إذا كان أحدهما أقوي من الآخر أو كان أحدهما ظالما للآخر لأن السلام لكي يقوم ويدوم لابد أن يشعر كل طرف أنه حصل علي حقه وأنه يستطيع أن يعيش آمنا‏,‏ وبالتالي يستطيع أن يغمض جفونه ويمد يده إلي الآخر بالتعاون‏,‏ أما تصور قيام سلام بين الصائد والفريسة‏,‏ فهذا شيء مستحيل‏.‏

والقضية الآن أن الخيار الاستراتيجي للعرب منذ نصر أكتوبر هو السلام ولم يفكر أحد من العرب في إعادة النظر‏.‏

ولكن الخيار الاستراتيجي لإسرائيل لم يتضح حتي الآن لا بالقول ولا بالفعل‏.‏

وهذه هي القضية الجوهرية الآن وفي الوقت نفسه هي السؤال التاريخي الموجه إلي أمريكا وإسرائيل أمريكا التي التزمت بأن تكون الشريك الكامل في عملية السلام ثم توقفت عن ذلك وطرحت دورا جديدا لم تتفق عليه مع العرب منذ البداية هو دور الوسيط ثم دور ناقل الرسائل ومثل هذه الادوار لا تحقق السلام‏.‏

والسؤال موجه أيضا إلي إسرائيل التي تراجعت عن قبول الانسحاب من أراض محددة بخرائط إلي وضع خرائط جديدة وشروط وقيود لم تكن واردة منذ البداية‏..‏ ثم إلي وضع الأراضي الفلسطينية في وضع جغرافي يجعلها محاطة بالقوات المسلحة علي أمل أن يعيش الفلسطينيون في كانتونات هي تكرار لأوضاع السود في جنوب إفريقيا في ظل الحكم العنصري الذي زال وانتهي عصر التفرقة العنصرية‏.‏

وهل يمكن أن يقوم سلام وشعب بأكمله مشرد خارج وطنه وداخل وطنه أيضا شعب يعيش لاجئا حتي علي أرضه وأرض أجداده‏.‏

وهل يمكن أن يقوم سلام وأمريكا وإسرائيل تمارسان الضغوط علي السلطة الفلسطينية لقبول ما لا يمكن القبول به‏,‏ وتتحول من سلطة وطنية معبرة عن الشعب الفلسطيني إلي سلطة حراسة للمستوطنات والمستوطنين الإسرائيليين وقمع الإرادة الشعبية الفلسطينية تحت ادعاء أنها ارهاب‏.‏

إن ذكري مرور ربع قرن علي أنتصار أكتوبر تثير في وجدان العرب مشاعر الاعتزاز والكرامة والثقة بالنفس‏.‏

وفي الوقت نفسه يتمني كل عربي‏,‏ من قلبه أن تتوافر الأجواء والشروط التي تجعل حرب أكتوبر آخر الحروب‏.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف