لماذا نقرأ؟

عاما بعد عام يتعمق نجاح مشروع القراءة للجميع‏,‏ ويتسع نطاق تأثيره‏,‏ ويزداد عدد المستفيدين منه‏.‏ وفي اعتقادي ان الاجيال القادمة سوف تؤرخ لمرحلة النهضة المصرية بهذا المشروع‏.‏ لان جوانب العمل الاقتصادي والمعارك السياسية شغلت المصريين لسنوات طويلة عن جانب التنمية الحضارية والثقافية ولم تدع لهم فرصة للعمل علي الارتقاء بالعقول‏,‏ علي الرغم من كثرة ماقيل عن ضرورة بناء الإنسان‏.‏وكان الفضل لهذا المشروع في كشف حقيقة ان بناء الانسان عملية متشعبة ومتعددة الجوانب ومتكاملة‏,‏ تبدأ من الطفولة وتتحمل الاسرة النصيب الأكبر من المسئولية عنها‏,‏ ثم تنتقل المسئولية إلي المدرسة والتليفزيون معا‏,‏ بعد ان اصبحنا في عصر اصبح فيه التليفزيون يقوم بدور الاب والمدرس ويقدم القدوة والمثل الحسنة أو السيئة‏,‏ ويتغلغل تأثيره نتيجة السحر الخاص الذي يرتبط به من ألوان ومشاهد ومواقف يقدمها ليتعلممنها الصغار والكبار‏.‏ يتعلمون كيف يعيشون حياة الفضيلة وكيف يعيشون حياة الرذيلة وكيف يرتكبون الجريمة الكاملة مستخدمين ادوات العصر‏!‏

يأتي مشروع القراءة للجميع في الوقت المناسب تماما ليعيد للكتاب قيمته ومكانته‏,‏ ولايجعل التليفزيون وحده منفردا بعقول الشباب‏,‏ والتليفزيون في النهاية وسيلة اعلام اي تعريف ومشاهدة للاحداث‏,‏ ووسيلة تسلية‏,‏ ولكنه ليس وسيلة تثقيف‏,‏ والثقافة ليس لها مصدر إلا الكتاب أولا ثم تأتي المصادر الاخري في مرتبة تالية‏,‏ وقد نشأت مؤخرا في اليابان مشكلة غريبة‏,‏ فقد اكتشفوا ان طلبة الجامعات يقرأون مجلات مصورة من طراز ميكي وبطوط وهي مجلات تعتمد علي سيناريو من الرسوم مع كلمات قليلة وليست فيها ثقافة حقيقية‏,‏ واجروا بحثا واسعا انتهي إلي ان التليفزيون هو السبب لانه غرس في هذا الجيل الارتباط بالصور وعدم الارتباط بالكلمات المجردة في كتاب أو صحيفة‏.‏ ودقوا اجراس الخطر وحذروا من طغيان حضارة التليفزيون‏.‏ وهي حضارة صور زائلة لاتؤدي إلي تكوين عقلي حقيقي‏.‏

ومثل هذه الفجوة بين الشباب وقراءة الكتاب حدثت في مصر لفترة طويلة‏,‏ واعتاد الجيل الجديد تحصيل معلوماته بطريقة سلبية‏,‏ بان يجلس امام التليفزيون‏,‏ ويترك نفسه لسيل المشاهد الذي يتتابع امامه دون ان يترك له فرصة للتفكير أو التحليل أو التأمل أو استنباط فترة جديدة‏..‏ وكم شكونا من انصراف الشباب المصري عن الثقافة الجادة‏,‏ واذكر ان الدكتور لويس عوض قاد حملة واسعة اثارت القلق علي المستقبل العلمي والثقافي والحضاري لمصر بسبب هذه الفجوة‏,‏ إلي ان جاء مشروع القراءة للجميع وفهمه البعض علي انه مجرد مشروع لخفض الاعباء المالية بتقديم الكتب باسعار رخيصة‏,‏ والحقيقة انه وان كان يحقق هذه الغاية إلا ان هذه ليست إلا وسيلة لغاية أكبر وأكثر خطورة‏..‏ الغاية هي ان يتحول الشعب المصري إلي شعب يقرأ‏,‏ والشعب الذي يقرأ شعب يفكر‏,‏ والشعب الذي يفكر ويحيط باطراف الثقافة المختلفة هو الشعب الذي يستطيع ان يعيش عصره ويضيف اليه ويشارك بايجابية في حماية وبناء وطنه وهو يعرف ماالذي يجب ان يفعله‏,‏ ويدرك بوعي قيمة مايفعله‏.‏

واذكر كتابا اصدرته دار المعارف منذ أكثر من ثلاثين عاما بعنوان لماذا نقرأ كان يضم مقالات للدكتور طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم والدكتور حسين فوزي وغيرهم من كبار الكتاب‏,‏ وكان كل منهم يجيب علي سؤال‏:‏ لماذا اقرأ وكانت اجاباتهم من امتع ماقرأت في ذلك الوقت‏.‏

قال الدكتور طه حسين مثلا‏:‏ ان القراءة هي زاد الشعب‏,‏ يقبل عليها ويشبع بها جوعه إلي العلم والمعرفة وألوان الحضارة‏,‏ وان تشجيع القراءة هو خير ماوجه إلي الانسان منذ تحضر إلي الآن‏,‏ ولقد بدئ تنزيل القرآن بفعل قصير خطير هو اقرأ فكان أول ماخوطب به النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ وخوطب به الناس من بعده هو هذا الامر الكريم بالقراءة‏,‏ وما نعرف شيئا يحقق للانسان تفكيره وتعبيره كالقراءة‏,‏ ولايتحقق للانسان العقل والمدنية إلا بالقراءة‏,‏ فإذا امر الله الانسان ان يقرأ فانما يأمره بان يطمح إلي الكمال ويسعي اليه‏.‏ والقراءة اخص مميزات الحضارة‏.‏ تكثر وتنتشر إذا اتسعت الحضارة وارتقت‏,‏ وتقل وتتضاءل إذا ضاقت الحضارة وانحطت‏.!‏

اما العقاد فقال في مقال من اجمل مقالاته‏:‏ إنما اهوي القراءة لان عندي حياة واحدة في هذه الدنيا‏,‏ وحياة واحدة لاتكفيني‏,‏ والقراء دون غيرها هي التي تعطي أكثر من حياة واحدة في عمر الانسان الواحد‏,‏ لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق‏,‏ ففكرتك أنت فكرة واحدة‏,‏ وشعورك انت شعور واحد‏,‏ وخيالك انت خيال فرد‏,‏ ولكنك إذا لاقيت بفكرتك فكرة اخري‏,‏ أو لاقيت بشعورك شعورا آخر‏,‏ أو لاقيت بخيالك خيال غيرك‏,‏ فليس قصاري الأمر ان الفكرة تصبح فكرتين‏,‏ أو ان الشعور يصبح شعورين‏,‏ أو ان الخيال يصبح خيالين‏..‏ كلا‏..‏ انما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات من الافكار في القوة والعمق والامتداد‏,‏ كما لووقفت بين مرآتين فلاتري صورتك صورتين فقط بل تري عشرات الصور‏.‏ لان الفكرة الواحدة جدول منفصل‏,‏ اما الافكار المتلاقية فهي المحيط الذي تتجمع فيه الجداول جميعا‏.‏

وقال العقاد ايضا‏:‏ لااحب الكتب لانني زاهد في الحياة‏,‏ ولكنني احب الكتب لأن حياة واحدةلاتكفيني‏.‏ ومهما يأكل الانسان فانه لن يأكل بأكثر من معدة واحدة‏,‏ ومهما يلبس فانه لن يلبس علي غير جسد واحد‏,‏ ومهما ينتقل في البلاد فانه لن يستطيع ان يحل في مكانين‏,‏ ولكنه بزاد الفكر والشعور والخيال يستطيع ان يجمع الحيوات في عمر واحد‏,‏ ويستطيع ان يضاعف فكره وشعوره وخياله‏..‏ ومن جهة اخري فان الكتب طعام الفكر‏,‏ وتوجد اطعمة لكل فكر كما توجد اطعمة لكل بنية‏,‏ ومن مزايا البنية القوية انها تستخرج الغذاء لنفسها من كل طعام‏,‏ وكذلك الادراك القوي يستطيع ان يجد غذاء فكريا في كل موضوع‏,‏وعندي ان التحديد في اختيار الكتب انما هو كالتحديد في اختيار الطعام‏,‏ وكلاهما لايكون إلا لطفل او مريض‏..‏فاقرأ ماشئت تستفد إذا كان لك فكر قادر أو معدة عقلية تستطيع ان تهضم مايلقي إليها من موضوعات‏.‏

هذه هي اهمية القراءة‏,‏ ومنها ندرك القيمة الحقيقية لهذا المشروع العظيم‏,‏ واتمني ان يصل هذا الادراك إلي كل مؤسسات الدولة وكل مؤسسات التعليم وكل المسئولين عن التربية‏.‏ وكل المصريين دون استثناء لنصبح شعبا يقرأ ويفهم ويفكر ويعيش عصره ولايكتفي باستيراد ادوات الحضارة ومظاهرها وانما يمتلك جوهر الحضارة ومفاتيحها‏.

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف