حقق برنامج الاصلاح الاقتصادي المصري نجاجا كبيرا منذ عام1991 حتي الآن, وازداد النجاح في الفترة الأخيرة, وشهدت بذلك الهيئات والمنظمات الدولية إلي حد إجماع هذه المنظمات علي ان مصر اصبحت من الاسواق الواعدة للاستثمارات الكبري.. ولكن هناك الوجه الآخر للإصلاح الاقتصادي وهو الاصلاح الاداري مازال متعثرا, ولم يتحقق فيه نجاح يذكر برغم اتفاق الجميع علي ان اصلاح جهاز الحكومة هو الضمان لجذب الاستثمارات, وتحقيق الأمن والأمان للمستثمرين, وهو المدخل الحقيقي للقرن الحادي والعشرين, وعلي اساسه ستتسع الفجوة بين الدول المختلفة والدول المتقدمة.
وبعيدا عن التصريحات الكثيرة التي تتوالي علينا منذ خمسين عاما والتي تملأ مجلدات عن حتمية هز الجهاز الحكومي, والبدء في الثورة الادارية, فمازال الحال كما هو تقريبا مع بعض اصلاحات جزئية في بعض الواقع ولبعض الوقت ثم سرعان مايعود كل شيء الي سابق عهده.. وطوال هذه السنوات الخمسين مازالت شكوي المواطنين قائمة من الاهمال والتراخي في الاداء وانجاز مصالح الجماهير, ومن ضياع الحقوق, ومن عدم انتظام الموظفين في مواعيد العمل, وبراعتهم في التحايل لتعطيل الأمور.. والشكوي الأكثر من ان حصول المواطن علي حقه لن يتم الا بأحد طريقين لاثالث لهما: الوساطة او الرشوة, وكان الطريق الثالث هو اللجوء إلي القضاء والحصول علي احكام بالزام الجهة الحكومية بالتنفيذ, ولكن المواطنين لم يعودوا يلجأون كثيرا إلي هذا الطريق لانه يستهلك من اعمارهم سنوات, ويكلفهم اموالا طائلة, وبعد ذلك فان الجهات الحكومية لاتنفذ احكام القضاء ولاتعدم الحجج لذلك.
وفي آخر تقرير للرقابة الادارية نشرته الصحف يقول رئيس الرقابة الادارية ان هناك تحسنا نسبيا في اداء بعض مواقع الخدمات الجماهيرية مثل المستشفيات ومكاتب الشهر العقاري ومكاتب التأمينات, وتراجعت حالات الاختلاس في المال العام التي ازدادات في فترات سابقة, وان كان هناك تزايد حالات تربح الموظفين العموميين من خلال وظائفهم, وقال ايضا ان عيون الرقابة يجب أن تركز في هذه المرحلة علي مجالات الخصخصة ومايصاحبها من صفقات.
فاذا اضيف إلي ذلك ماتشتهر به مصر بالتعقيدات الادارية وسوء التنظيم في القطاع الحكومي وتضخم اعداد الموظفين بصورة لايمكن تصورها, والدراسات الدولية تشير إلي ثلاث مشاكل علي وجه التحديد تواجه من يتعامل مع اي جهاز حكومي: المشكلة الأولي هي عدم تحديد المسئولية فالعمل الواحد ليس في يد موظف واحد وليس في جهة واحدة وبالتالي يسهل علي الموظف التهرب من اداء العمل والقائه علي غيره ويجد المواطن نفسه تائها بين المكاتب والمسئوليات الشائعة, والمشكلة الثانية هي فقدان الانضباط وعدم تطبيق سياسة جادة للثواب والعقاب والاهتمام بالشكليات, فكل مايحرص عليه رئيس العمل هو كشوف الحضور والانصراف ولايهم ان يضيع الموظف وقت العمل في قراءة الصحف وحل الكلمات المتقاطعة وإجراء مكالمات تليفونية شخصية علي حساب الدولة, اما المشكلة الثالثة فهي التضخم الهائل في الألقاب الوظيفية, فقد اصبح لكل وزارة عشرات المواظفين بدرجة وكيل وزارة حتي فقد اللعب معناه ولم يعد معبرا عن وظيفة حقيقة, اما الموظفون في درجة مدير عام فقد اصبحوا بعشرات الآلاف دون ان تكون هناك ادارات عامة حقيقية ليتولوا قيادتها, ولذلك تحولت الألقاب الوظيفية إلي مجرد وسيلة لرفع الروح المعنوية للموظفين, أو لإرضاء تطلعاتهم إلي الترقي, ولكنها لاتعبر عن الاحتياجات الحقيقية أو عن هيكل تنظيمي قائم علي اساس علمي وواقعي.
ومن الغريب ان تعداد سكان مصر يماثل تعداد سكان تركيا ومع ذلك فان عدد العاملين في الحكومة في مصر يقاربون خمسة ملايين موظف بينما عددهم في تركيا اقل من600 ألف موظف, وان كان هناك اعتبار الرغبة في إيجاد فرصة عمل للعاطلين وهو اعتبار اجتماعي له اهميته الا انه يتصادم مع الاعتبار الآخر وهو حسن ادارة المرافق وسرعة الإنجاز وتحويل الجهاز الحكومي من فيل ضخم ثقيل الحركة إلي غزال خفيف ورشيق وسريع الحركة, ونجاح الحكومة يتقرر في ضوء قدرتها علي إيجاد حل لهذه المعادلة الصعبة, وهي ليست مستحيلة علي أي حال, وهناك حلول تراعي الجانب الإنساني والاجتماعي اتبعتها دول كثيرة سارت في طريق الاصلاح الاقتصادي والانطلاق نحو التنمية.
والتضخم في جهاز الحكومة لايرجع فقط إلي الرغبة في إيجاد فرص عمل ولو وهمية لتشغيل العاطلين, ولكن هناك سببا آخر هو التفكير البيروقراطي الذي جعل الحكومة منذ عشرات السنين لاتجد حلا لأي مشكلة الا بانشاء وزارة أو جهاز جديد لها, ثم يعاد التنظيم وتلغي هذه الوزارة وتضاف اختصاصاتها إلي وزارة أخري فيتضخم جهاز الموظفين إلي حد الترهل ويصعب ادارته والسيطرة عليه, وهذه المشكلة نفسها هي أهم اسباب الخسائر في شركات القطاع العام, فالدولة هي التي فرضت علي هذه الشركات الخسارة فرضا حين الزمتها بتعيين خريجين لاتحتاجهم وليست لهم اعمال حقيقية, ثم الزمتها بعلاوات سنوية واجتماعية, والزمتها بصرف منح في مناسبات قومية, ثم فرضت عليها سياسة حماية العامل أو الموظف المهمل بل وحماية من يتسبب في الإساءة إلي سمعة الشركة بعدم الاتقان في العمل.. ومادام العامل المهمل يتساوي مع المجتهد في الأجر والمزايا والضمانات فلماذا يستمر المجتهد في اجتهاده بعد ان يكتشف انه هو الخسران..؟
مشكلة المشاكل ان الثورة الادارية تحتاج إلي اتخاذ قرارات صعبة, وتنفيذ سياسة تتعارض مع سياسة تملق العاملين علي حساب المصلحة العامة, كما انها تحتاج إلي جهد كبير لاعادة تنظيم كل الوزارات واعادة تنظيم الدولة, وهذه امور معقدة وتحتاج إلي وقت طويل وصبر وعزيمة من نوع خاص, ولكن هذه المهمة الصعبة ضرورية لكي نستكمل بها نجاح الاصلاح الاقتصادي وندخل عصر المشروعات الكبري..
والحكومة الحالية هي التي تستطيع القيام بهذه المهمة الصعبة, لانها بالفعل تختار المشاكل الصعبة والمزمنة وتقتحم وتحسم ولديها العزيمة والجلد للقيام بالمهام الصعبة..وربما كان لها العذر في العامين الماضيين لان حجم المشاكل امامها كان أكبر من الطاقة, ولان المشاكل التي تم ترحيلها وتأجيلها من سنوات سابقة كانت قد وصلت إلي مرحلة لايمكن السكوت عليها, ولكن مشكلة الادارة الحكومية الآن هي التي لايمكن السكوت عليها أو تأجيلها, واذا كانت الحكومة تريد الاستعانة بالخبرات الاجنبية والدولية فهذا هو المجال الأول الذي يحتاج إلي الاستفادة بهذه الخبرات.. ومن الممكن ان تكون هذه هي المعركة القومية لاعادة بناء الدولة العصرية وهذا هدف لايقل أهمية عن مشروعات بناء الطرق والكباري والمزارع والمدن الجديدة, وربما يكون أهم لأن وجود جهاز اداري نظيف يتمتع بالحيوية والقدرة علي الآداء الجيد وسرعة الاستجابة هو الضمان الأكبر لنجاح واستمرار هذه المشروعات جميعا.