مرت 45 يوما ولم يكتب تاريخ ثورة يوليو حتي الآن كتابة علمية منهجية علي يد مؤرخين يتصفون حقا بالحياد والنزاهة والموضوعية.
وأكثر ما في أيدينا من كتابات عن الثورة ليس إلا حكايات وروايات لا نعرف مدي الصدق فيها والكذب ولسنا واثقين أن كان الضمير وراء هذه الروايات أو شيء آخر قد يكون حقدا قديما أو رغبة في الثار أو محاولة لإثبات بطولة شخصية علي حساب الحقيقة التاريخية.
وهناك فرق بين كتابة التاريخ وبين سرد أراء وانطباعات شخصية تعبر عن موقف صاحبها أو عن اعتبارات ومصالح شخصية كتابة التاريخ علم له مناهج وأصول والوثائق فيه هي الفيصل في الحكم علي صدق أو كذب روايات الرواة والمؤرخون أنواع وفي الدراسات التاريخية في كل العالم ومؤرخون لهم قيمة ومؤرخون ليست لهم قيمة مؤرخون لديهم ضمائر القضاء ومؤرخون يوظفون علمهم وبراعتهم لصياغة التاريخ بالطلب وبما يرضي من يدفع أكثر.
أسباب كثيرة جعلت كتابة تاريخ ثورة يوليو أمرا صعبا حتي الآن منها عدم وجود الوثائق الكافية ومنها غياب أكثر القادة الحقيقيين للثورة وإيثار من بقي منهم للصمت احتراما للنفس وتعففا عن الدخول في معارك ومهاترات ليس دافعها الوطنية ولا هدفها البحث عن الحقيقة ومنها أن صغار الضباط الذين لم يكن لهم دور حقيقي في الإعداد للثورة ولم يحضروا أو يشتركوا في الأحداث المهمة وجدوا الساحة خالية ورأوا أن هذه فرصتهم ليسجلوا لأنفسهم أدوارا بطولية من نسيج الخيال ومنها أيضا أن قوي الاستعمار القديم والجديد والمتجدد حريصة علي تجريد الثورة من قيمتها الحقيقية، والتقليل من شأنها ليبقي لدي المصريين الشعور عميقا بأنهم لم يكسبوا شيئا بالثورة وأن كل من تصدى للقيادة أخطأ أو انحرف أو استأثر لنفسه بالمكاسب ولذلك ليس غريبا أن سعي البعض إلي نشر فكرة أن سنوات ثورة يوليو كانت كلها من أولها إلي أخرها سنوات الهوان..
الأسباب عديدة لتأخر كتابة التاريخ الحقيقي للثورة وليس ذلك غريبا لأن هذا التاريخ الحقيقي لن يكتب في هذا الجيل، ولن يكون منصفا ومتوازنا إلا بعد أن يرحل أخر الذين عاشوا سنوات الثورة وتهدأ الانفعالات وتذهب المصالح والمغانم معهم في القبور وتبقي الحقائق يستطيع أن يراها جيل جديد لا هو مع ولا هو ضد قادة الثورة ولا هو خاسر ولا متكسب منها ولا هو باحث لنفسه عن مكان في التاريخ يستحقه أو لا يستحقه.
وهذا ما حدث ويحدث في مراحل التحول التاريخية الكبري..
فالثورة الأمريكية والثورة الفرنسية لم يكتب تاريخه إلا بعد سنوات طويلة ومازالت كلتاهما موضعا للباحثين عن الحقيقة.
لذلك يجب إلا تشغلنا كثيرا هذه الظاهرة ويجب إلا تظن أن التاريخ الحقيقي للثورة قد بيع في المزادات أو ضاع في زحام وتصايح باعة التاريخ الجائلين أو ذهب ضحية البلطجة الفكرية التي ظهرت في حياتنا في ذات الوقت مع البلطجة في المجالات الأخرى فسوف يأتي اليوم حتما الذى يتم فيه إعادة كتابة هذه الثورة بروح الأنصاف وبضمير القاضي العادل وبنزاهة العلماء وترفعهم عن الدنايا ومغانم الدنيا.
ولا يشغلنا أن الأنصاف تأخر وأن أصحاب الصوت العالي يتجمعون لتشوية الحقائق وليفسدوا علي المصريين شعورهم بالكرامة والاعتزاز بهذا التحول التاريخي الكبير الذى كان نقطة تغير في مصر وفي المنطقة وفي أفريقيا.
الذى يشغلنا هو لماذا يشعر الأمريكيون بالاعتزاز بالثورة الأمريكية ويشعر الفرنسيون بالفخر بالثورة الفرنسية بينما نجد إصرار البعض عندنا علي حرمان المصريين من هذا الشعور ولماذا سعيهم إلي غرس شعور بالخزي وكأن نكسة 67 لم تكن تنفيذا لمخطط لحصار الثورة والقضاء عليها قبل أن تحقق أهدافها وينتشر تأثيرها وتصبح المثل الأعلي للشعوب الصغيرة والفقيرة وكأن هذه النكسة لم تكن وليدة عبد الناصر وعامر وكأنهما كانا وحدهما في هذا العالم وكانت في يدهما كل العوامل التي تساعدهما علي التحكم في مسار الأحداث.
ليس مهما أن يختلف البعض علي عبد الناصر فكل زعيم وطني في التاريخ موضع خلاف دائما ابتداء من نابليون إلي كرومويل إلي جيفرسون أو جورج واشنطن إلي محمد علي وسعد زغلول لا بأس فالاختلاف في زاوية الرؤية للقائد أو الزعيم يساعد علي إظهار الحقيقة وكذلك الاختلاف حول رواية الأحداث وتفسيرها.
الاختلاف حول الثورة وزعمائها مطلوب كمرحلة للوصول إلي الحقيقة ولكن الاختلاف شيء والإٍساءة والقذف وتوجيه الاتهامات التي يعرف أصحابها أنها باطلة شيء أخر..
أريد أن أقول أن ثورة يوليو لم تكن حدثا صغيرا أو عابراً ولكنها كانت علامة في التاريخ المصري كله مصر بعد الثورة ليست هي مصر قبلها والمصريون بعد الثورة لم يعودوا ولن يعودوا كما كانوا قبلها وهذا يعني أنها ثورة وليست انقلابا كما يحاول البعض أن يدعى ثورة غيرت النظم والأسس والفكر والفلسفة السياسية والاجتماعية وكل ماكان يقوم عليه المجتمع المصرى في ظل الملكية والأقطاع وسيطرة رأس المال والاستعمار وأعوان الاستعمار..
وأريد أن أقول لأصحاب القلوب التي ما زالت مشتعلة بالحقد اتقوا الله في الأجيال الجديدة ولا تجعلوها تكفر بكل شيء فلن تكونوا أنتم البديل ولكن الشيطان سيكون هو البديل.