هذه الوثيقة لمن .... ولماذا ؟

  في نهاية جولة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي في ألمانيا أقيمت ندوة جمعت أكبر المستشرقين الألمان وأساتذة اللاهوت وممثلي الكنائس، وكان موضوع الندوة أوروبا والعالم الإسلامي وكان واضحا أن الهدف الأساسي منها هو طرح أوجه الخلاف والتخوف بين أوروبا والإسلام كما يراها الألمان ليعرفوا موقف الأزهر منها، وردود فضيلة الأمام الأكبر عليها ربما لكي يحسبوا بعد ذلك حسابهم، هل الحوار والتعاون بين أوروبا والإسلام أمر ممكن أم أن الصراع بينهما محتوم كما يعلن صمويل هنتجتون وفوكو ياما وغيرهم من مفكري وفلاسةف الغرب.


        وكانت القصة الأولي هي الحوار هل الإسلام يقبل الحوار مع من يختلف معه أم يعتبر الآخرين كافرين ويحرم التعامل معهم وهذه الفكرة شائعة في الإعلام اغربي وهل الأزهر باعتباره أكبر مؤسسة إسلامية مستعد للاشتراك في الحوار بين الأديان وبين الحضارات أو أنه سيعتبر ذلك أمرا محرما شرعا وفقا للفكرة السائدة في الغرب من أن الأزهر مؤسسة جامدة وسلفية ورافضة للتطور ولمد اليد للآخرين، وهل لدي الإسلام ما يق في وثيقة مصر والقرن الحادي والعشرين بلورة لفكر الرئيس حسني مبارك.. هذه الوثيقة ليست إبداع الحكومة ولكنها إعادة بناء وصياغة التوجهات الرئيسية في نظام الحكم بعد خمسة عشر عاما من المعارك السياسية والاقتصادية وبعد التطورات الراديكالية التي حدثت في موازين القوي الدولية.


        البعض يتساءلون هل وثيقة مصر والقرن الحادي والعشرين هي برنامج عمل حكومة الجنزوريو الإجابة بالنفي لأن برنامج هذه الحكومة وأعلن مرتين في مجلس الشعب ونوقش وتم إقراره وليس من المعقول أن يكون للحكومة برنامجان، كذلك فإن الحكومة ملتزمة بتنفيذ ما يتبقي من خطة التنمية الثالثة وإعداد الخطة الرابعة وهي خطة طموحة تحتاج إلى تضافر كل الجهود: من الحكومة والشعب والمستثمرين في القطاع الخاص وقطاع الأعمال المثقفين والقيادات السياسية.. فالتكتل الشعبي في هذه المرحلة لازم لإنجاح خطة التنمية وهو مسألة حياة أو موت بالنسبة للظروف السياسية المحيطة بنا.. فليس هذا هو الوقت الذي يقول فيه البعض للقائد أذهب أنت وربك فقائلا أنا هاهنا قاعدون ولكنه الوقت الذي يجب أن يقول فيه كل مصري ، نحن معك نخوض معاركك معركة التنمية واستكمال الإصلاح الاقتصادي معركة تحرير الأرض العربية معركة إنقاذ الأمة العربية من الشراك المنصوبة لها ومعارك أخري لا حصر لها.


        ولكي يتكتل المصريون وراء قائدهم كان لابد من وثيقة توضح الرؤية أمامهم، وتحدد اتجاه المسير، وطبيعة المعارك وضرورة النصر فيها، وهذا هو الوقت الذي يجب أن يعرف فيه كل مصري كيف يفكر مبارك، وماذا يريد، وكيف سيحقق ما يريد، وهذا هو الوقت لكي نناقش كل ذلك بحرية ، نختلف ونتفق يدور بيننا جدل حول الكليات والتفاصيل لكي نصل في النهاية إلى اتفاق عام.. إلى إجماع شعبي.. إلى وحدة فكر. ليس بالمعني الذي كنا نتحدث عنه في ظل النظام الشمولي..


فقد كانت وحدة الفكر معناها السير وراء الزعيم دون مناقشة.. وهل يملي إرادته ونحن نسمع وننفذ.. الان في ظل حكم مبارك، الأمر مختلف تماما فوحده الفكر تنبع من القاعدة وليست من القمة وحدة لا تأتي ابتداء وبالتسليم والاستسلام والطاعة والامتثال، ولكنها تأتي في النهاية.. والبداية حرية فكر.. وحوار مفتوح.. وحق الاختلاف مكفول.. ثم نصل إلى أطار عام يحدد السياج الذي يضمن أن تكون مسيرة العمل الوطني في الاتجاه الصحيح.


ولقد طالب المثقفون طويلا بمشروع قومي وكانوا يقصدون مشروعا فكريا وحضاريا لتحقيق النهضة في المجتمع.. كانوا يقصدون مشروعا عصريا يماثل مشروعي محمد على وجمال عبد الناصر لبناء مصر على أسس جديدة، ونقلها من الحاضر الراهن بكل مشاكله، ومخلفات الماضي التي تعوق الانطلاق، إلى المستقبل الذي تصبح فيه مصر مختلفة نوعيا.. مختلفة في الكيف وليس في الكم.. ليس المهم فقط أن نزيد عدد المساكن والمستشفيات والطرق التليفونات. وغيرها، رغم الأهمية البالغة لذلك.. ولكن الأهم أن تصاحب هذه التغيرات الكمية تغيرات كيفية بمعني أن تدخل مصر عصر العلوم الحديثة.. الهندسة الوراثية والليزر وهندسة الفضاء والإلكترونيات، أن تتغير عقلية الإنسان العربي من عقلية انتظار الفرج إلى عقلية صناعة الأمل إعادة روح التحدي والمقاومة والحرية الفريدة. والقدرة على المبادرة...


التغير الكيفي المطلوب هو أن ننقض مصر عن نفسها أثار مراحل الاستعمار والهيمنة الأجنبية والتخلف والأمية لكي تصبح جديدة.. تفكير جديد وأهداف جديدة وإرادة جديدة أن يصبح المصريون مواطنين عالمين قادرين على التعامل والتعايش مع كل العالم دون حساسية أو شعور بالدونية. وأن يصبحوا ليس فقط مستهلكين للتكنولوجيا والأبحاث الصحيحة بل هم منتجون قادرين على الإضافة.


ولكي يتحقق ذلك كله كان لابد أن تكون البداية ورقة تحدد فلسفة العمل في هذه المرحلة. تطرح كل الأسئلة الحساسة بصراحة ودون مواراة.. وتجيب عليها بكل وضوح.. وتقول للحكومة وللشعب المصري من نحن وماذا نريد وما هو دور كل قطاع ووزارة ومؤسسة ثم ما هو دور كل فرد.


بذلك نكون قد وضعنا مشروعا للنهضة هو ما كان يقصده الرئيس مبارك حين كان يطالب بمشروع الصحوة الكبرى وللانطلاق وللتغيير.


هذه الوثيقة إذن ليست وثيقة رئيس الوزراء.. ولا هي وثيقة مجلس الوزراء، ولكنها وثيقة مصر كلها. الفكر الأساسي فيها مستمد من تجارب العمل الوطني في سنوات طويلة ممتدة إلى مائة عام في الماضي، لا تنكر كل إضافة تحققت قبل الثورة بعدها وفي ظل كل القيادات كل من إضافة إلى البناء حجرا يجب أن نذكره ونقدر له دوره ونمضي في المسيرة لا من نقطة الصفر.. بل من نقطة متقدمة كثيرا.. نحن الآن في منتصف الطريق أو ربما نكون قد تجاوزنا منتصف الطريق أيضا ولابد أن نفكر ماذا نعمل وكيف..


لذلك آري أن مثل هذه الوثيقة يجب ألا تظل في دائرة قيادات الفكر والتنفيذ وإلا فسوف نكرر نفس الخطأ الذي وقعنا فيه في مراحل سابقة حين كانت القيادة في واد والجماهير في وادي آخر لابد أن تصل هذه الوثيقة بكل وضوح إلى كل مواطن... كل طالب. وكل موظف.. وكل قيادة سياسية معارضة أو مؤيدة فهي تمثل الحد الأدنى من الاتفاق الوطني الذي يجمع عليه المؤيدون والمعارضون بلا مزايدة.


أريد أن أقول أنه لابد من عمل سياسي وفكري كبير لكي تصبح هذه الوثيقة جزاء من عقل وتفكير كل مصر في كل موقع، فلا يكفي لقاء أو عشرة لقاءات بعقدها رئيس الوزراء ولا يكفي أن يقوم بهذا لعمل رئيس الوزراء وحده. ولكنه عمل يجب أن نقوم به جميعا دون دعوة بدافع الشعور بالمسئولية والحصر على المستقبل.دمه في هذا الحوار كدين، وكحضارة وثقافة أم أنه مجرد عقيدة يدين بها مليار إنسان ولا تملك الحجة أو المنطق أو الفكر القادر على الصمود في حلقة الحوار والمواجهة.


        كانت هناك أسئلة كثيرة وأوراق عمل كلها تدور حول هذه التساؤلات وتضيف إليها بشكل مباشر أو بتشكيل غير مباشر ولكن موقف الأمام الأكبر من هذه القضية كان واضحا في حديثه ويتلخص فيما يلي:


·        أن الأزهر باعتباره أقدم وأكر مؤسسة إسلامية وتتبعه جامعة الأزهر ومراكز بحوث لديه حصيلة من الدراسات والأفكار يستطيع أن يقدمها ويطرح فيها الرؤية الإسلامية للعالم ولحقيقة الإيمان ولعلاقة المسلم بغيره من غير المسلمين سواء في الدول الإسلامية حيث الأغلبية المسلمة والأقلية غير المسلمة أو في دول العالم غير الإسلامية حيث المسلمون هم الأقلية.


·        وأن الأزهر كمؤسسة رسالتها شرح حقيقة الإسلام للمسلمين ولغير المسلمين ليست مهمة تحويل غير المسلمين إلى المسلمين والإسلام لن ينقص الديانات الأخري وكذلك فإن الضغط على أناس وأكراههم على اعتناق دين معين لا يؤدي إلى وجود مؤمنين صادقين ومخلصين لهذا الدين ولكنه يؤدي إلى وجود منافقين يعلنون الإسلام ويضمرون العداء له وفي هذا خطر على الإسلام والمسلمين. ولذلك فإن الإيمان إذا لم يكن نابعا من القلب والضمير وعلى أساس الاختيار الحر والمعرفة الكاملة فلا قيمة له ولا يستحق السعي إليه.


·        وأن الأزهر كمؤسسة إسلامية دورها الحفاظ على نقاء شريعة الإسلام والدفاع عنها في مواجهة أعدائها والمسيئين إليها، يدرك أن هؤلاء فريقان فريق من الغربيين درسوا الإسلام بعضهم درسه بهدف اختيار المداخل للهجوم عليه فهؤلاء لا فائدة من الحوار معهم، لأنهم يريدون دائما أن يثبتوا لمن يستعملهم أن يؤدون واجهبم في الإساءة إلي الإسلام بعقلية غريبة عن الجذور والتراث واللغة التي لا يمكن فهم الإسلام دون معرفتها معرفة جيدة هؤلاء يقعون في أخطاء وأوهام ويفهمون بعض الأمور على غير حقيقتها، وهؤلاء يفيد الحوار معهم وليس بقصد تحويلهم إلى مسلمين ولكن بصد مساعدتهم على معرفة احقائق الإسلام كما هي دون خلط أو سوء فهم,.


·        وإن الإسلام دين واضح ليست فيه أسرار يختص بها بعض الناس دون سائر الناس وليست فيه طلاسم يصعب فهمها وليست فيه أسرار أعطاها الله لبعض الصفوة وحرم الآخرين منها ولكن كل مخلص غير متحيز يستطيع أن يعرف كل شيء عن الإسلام ومن ناحية أخري فإن التسامح في الإسلام ومن ناحية أخري فإن التسامح في الإسلام في جوهر العقيدة والأمر الإلهي للمسلمين لا أكراه في الدين فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر أنك لن تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ومن جانب آخر فإن جوهر الإسلام أن اختلاف العقائد لا يعني وجود عازل يمنعهم من التعامل والتعاون فقد كان الرسول صلي الله عليه وسلم يتعامل مع النصاري واليهود وكان يرتدي ملابس مستورة من بلاد أديانها مختلفة وفي بداية الهجرة أمر المسلمين بالهجرة إلى الحبشة ليكونوا في حماية حاكم مسيحي ورأي أنهم سيجدون الأمان عنده أكثر مما يجدونه وهم في وطنهم بين أهليهم وتطبيق ذلك قائم الأن في مصر مصر مجتمع فيه المسلم والمسيحي، والمبدأ الذي يعيش به المصريون هو الدين لله والوطن للجميع وهو مبدأ معبر عن موقف الإسلام والمصريون يعيشون معا في بيوت متجاورة وهم شركاء في أعمالهم التجارية وفي الأرض الزراعية وفي كل أمور حياتهم وليس في ذلك حرج أو حساسية وإذا ظهرت قلة منحرفة متعصبة أو تسعي إلى إيذاء أصحاب الدين الآخر فهم مجرمون أو مرضي أو مصابون بالهوس الديني وهم في النهاية شذوذ عن القاعدة وبدلا من أن تركزوا على الشذوذ أنظر إلى القاعدة العريضة والملايين يتعايشون منذ 1400 عام وحتى اليوم في أخوة كاملة.


·        وأن الحوار لكي يحقق نجاحا لابد أن نحدد ما هو الهدف.. هل الهدف أن يقول أصحاب كل دين نحن أصحاب الدين الأفضل وأنتم أصحاب دين زائف أو نحن على حق وأنتم على باطل أن كان هذا هو الهدف فسيكون ذلك حكما بفشل الحوار منذ اللحظة الأولي وأن كان الهدف هو الحث عن القواسم المشتركة بين الأديان وما أكثرها فسيكون حوارا ناجحا لأن كل الأديان من عند الله والله واحد وليس هناك آله لكل دين ومادام الله واحد فمن الممكن أن يلتقي البشر وهم مخلوقاته على المبادئ المشتركة ويتركوا أوجه الخلاف ليكون الحكم فيها لله والله يحكم بيننا يوم القيامة فيما كنا فيه مختلفين.


·        وليس معني ذلك أن الأزهر يريد أن يتفادى أو يتهرب من مناقشة العقائد فالدراسة مقارنة للأديان لا بأس بها ولكن فقط نفضل أن يكون ذلك بين العلماء والمتخصصين وليس بين العامة الذين يحكمون مشاعرهم ولا يحكمون المنطق والمنهج العلمي ونحن مستعدون في هذا المجال وقادرون على المضي في مثل هذا الحوار بمثل ما تريدون.


·        وأن الغرب المسيحي بحضارته يعترف أنه بدأ النهضة بالعلوم التي نقلها عن المسلمين والآن نقول أن العالم الإسلامي يحتاج إلى أن يرد الغرب الدين الذي عليه ونأخذ منه العلوم الحديثة لأن العلم والحضارة ملك للبشرية وليست حكرا لجانب الأكبر إلى المستشرقين وعلماء اللاهوت الألمان في موضوع يطول فيه للحديث.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف