وحدة المصريين

ليس في العالم كله دول كثيرة مثل مصر عاش شعبها آلاف السنين وحدة واحدة، متجانسة.. كل من يعيش على أرضها من بنت هذه الأرض، حتى الذين وفدوا إليها من أصول غريبة سرعان ما ذابوا فيها، ونبتت لهم جذور في هذه الأرض، ولم تعد تربطهم بأصولهم القديمة أية روابط ولا حتى الذكريات، وهذه الخصوصية في مصر تحتاج منا الآن إلى وعي جديد، لظهور عوامل جديدة تنذر بالخطر عليها.


الخصوصية في شعب مصر أن الاختلافات في النسيج العام مهما بلغت قوتها، ليست إلا اختلافات سطحية، لا تؤثر في التكوين الحضاري والثقافي العام، ولا في الانتماء الوطني، ولا في أساليب الحياة والتفكير.. مصر ليست الولايات المتحدة أو إسرائيل مثلاً.. وكلاهما مجتمع ترجع نشأته إلى إخلاط من شعوب مختلفة في اللون والثقافة والجنس، وإن كان يعيش على أرض واحدة إلا أن الفوارق بينها كبيرة، البيض والسود في أمريكا.. أو اليهود الشرقيون والغربيون، ثم الأفارقة في إسرائيل ..لكل فئة حياتها وعقائدها وسلوكها.. وكل منها لا يشعر بانتماء حقيقي، أو بوحدة حقيقية مع الآخرين.. هذه المشكلة لا وجود لها في مصر في أي عصر من العصور..فكل من في مصر مصريون.. وأن وفدت إليها جماعات أو أفراد فهم الآن لا يعرفون عنها شيئاً، ولا يتصورون لهم حياة إلا في مصر.


لذلك فإن التفرقة بين المسلمين والأقباط في مصر مرجعها إما إلى عدم فهم طبيعة المجتمع المصري وتكوينه، أو هي محاولة لإيجاد حساسيات ليس لها وجود، ودق أسفين في عقول ليست مستعدة للاستجابة له ..لأن المسلمين والأقباط ليسوا إلا مصريين. وهم يعيشون حياة مشتركة، بل إنهم يعيشون في اندماج..في بيوت وإحياء واحدة..وهم شركاء في العمل والتجارة والزراعة.. وهم مؤمنون بالله إيماناً يرفض الانحراف عن العقائد.. والإسلام والمسيحية في مصر لهما خصوصية تميزهما.. نقاء العقيدة واعتدالها، ورفضها الشديد للتطرف والعنف باسم العقيدة.


وعلى امتداد التاريخ حدثت جرائم فردية، ككل الجرائم التي تحدث ويرتكبها مجرم أو مختل العقل، لكنها لا تؤثر في طبيعة التوحد الشعبي، ولا تنال من الكيان الموحد للمصريين.. بعض هذه الأحداث ناتج عن نوازع الشر والجريمة وفقدان الرشد، وأكثرها تنفيذاً لمخطط شيطاني هدفه الحقيقي إحداث تصدع في تكوين مصر والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد.. والجرائم التي تحدث من الجانبين سرعان ما يجرفها النسيان، وتضيع في تيار الحياة الموحدة التي يعيشها المصريون.


ولا يمنع ذلك من وجود فئة من المسلمين والمسيحيين تحاول استغلال هذه الأحداث وتتاجر بها لتحقيق أهداف شريرة.. هذه الفئة ليست في الداخل، ولكنها في الخارج.. في الولايات المتحدة وأوروبا حيث يعيش المصريون المهاجرون حياة طبيعية، ويحققون نجاحاً في جميع المجالات، توجد جماعات تعجز عن تحقيق النجاح، أو تحمل في داخلها مرارة تجارب خاصة بها، وأسباب السخط لدى هؤلاء معروفة، وأكثرهم ارتضى لنفسه أن يكون مخلب القط، وأن يقوم بالدور القذر ويقبض الثمن.


في أوروبا وأمريكا تحاول هذه الجماعات أن تقدم نفسها بغير الحقيقة.. الحقيقة إنها شراذم وأشلاء يملأها الحقد.. ولكنها تعطي لنفسها ثوب البطولة الزائف، فتدعي أنها خرجت لأنها لم تحتمل الاضطهاد، وبعضهم يصل بهم الأمر إلى طلب اللجوء السياسي ظناً أن ذلك يوفر لهم موقعاً، أو يضمن له عيشاً سهلاً دون عمل، لأنه لا يجيد عملاً وغير قادر على تحقيق نجاح.


وفي أوروبا وأمريكا جهات تفتح صدرها لهؤلاء بالذات تنتظرهم وتتلقفهم وتلقنهم وتعدهم لدور قذر هو الإساءة إلى مصر من خلال منابر أو رسائل إعلام توفرها لهم وتغدق عليهم المال بقدر ما يبذلون من جهد في اختراع حملات للهجوم على كل شيء في مصر.


ولم أكن أصدق وجود هؤلاء إلى أن سافرت بصحبة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، والدكتور صموئيل حبيب رئيس الطائفة الإنجليزية في مصر والتقينا بتجمعات المسلمين والمسيحيين المصريين والعرب في عدد من الولايات، ولمسنا أن التوحد بين المسلمين والأقباط في الداخل مستمر بينهم في الخارج.


ولكن لاحظت وجود هذه الفئة صغيرة الحجم ولكن عالية الصوت كثيرة الحركة وفي عيون أفرادها تلمس خجل الخائن الذي لا يستطيع أن يرفع عينيه في عينيك.. لأنه أول من يعرف أنه كاذب.


وكانت اللعبة التي يروج لها هؤلاء هي لعبة التفرقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر وحاولوا أكثر من مرة افتعال مواقف محرجة.. وكان أفضل رد عليهم ما كان يعلنه الدكتور صموئيل حبيب من أنه كرئيس لطائفة مسيحية لا يرى ولا يلمس تفرقة وأن أصدقائه وجيرانه من المسلمين أقرب إليه في بعض الأحيان من المسيحيين وما كان يعلنه فضيلة الإمام الأكبر من أن والده كان مزارعاُ في إحدى قرى سوهاج وكان شريكه في الأرض مسيحياً وكانت بينهما إخوة حقيقية وبين الأسرتين.. وبين كل الأسر المسلمة والمسيحية في القرية كما في مصر كلها، وكان فضيلته يردد: من يعرف الإسلام على حقيقته يعرف أن المسلم الحق لا يفرق بين الناس على أساس دياناتهم وكل من يحمل الجنسية المصرية هو أولاً وأخيراً مصري، والإسلام لا يعرف الإكراه على العقيدة لأن الإكراه على اعتناق عقيدة لا يولد مؤمنين بها ولكن يولد منافقين يدخلونها خوفاً وطلباً للنجاة والمسلم مأمور من ربه بأن يحمي كل من يلوذ به ولو كان كافراً لا يؤمن بأي دين، وأن أحداً من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه ما منه".


وكانت لجولة فضيلة الإمام الأكبر والدكتور صموئيل حبيب أصداء واسعة أفسدت المخطط الذي تنفذه القلة التي أفسد العقوق ضميرها ولكن اللوبي اليهودي في أمريكا وأصابعه في أوروبا مازال يحتضن هذه الفئة الخائبة ويمولها ويحركها ويلعب بها كورقة لتشويه صورة الإسلام والمسلمين، وصورة مصر والمصريين والهدف هو إثارة حملات تشغل مصر بالرد عليها وتستنفد طاقتها في معارك وهمية تبعدها عن معركتها الحقيقية: السلام والتنمية.


وبالنسبة لنا لا يمثل هؤلاء الخارجون شيئاً له قيمة لا من حيث العدد ولا من حيث التأثير ولن يقدروا على النيل من وحدة المصريين ولكنهم صيد ثمين بالنسبة لأجهزة وجماعات لها أهداف عدائية تحاول تحقيقها بوسائل متعددة بالإعلام وبإيواء قادة الإرهاب وتيسير إقامتهم وتحركاتهم واجتماعاتهم لتنفيذ مخططاتهم وبإعطائهم صورة لا تمثل حقيقتهم.. بالقول بأنهم مضطهدون في بلادهم ومحرومون من حقوق الإنسان وباسم حقوق الإنسان تجد الدول الكبرى فرصة التدخل في شئون الدول الصغيرة والضغط عليها من أجل حفنة من المجرمين.


ويكفي أن نرى أن هذه الفئة المأجورة تتخذ الآن من حادث المنيا فرصة للتهليل، في الوقت الذي يعلن فيه قداسة البابا شنودة أن هذا الحادث من عمل الإرهاب الذي يستهدف مصر كلها والمصريين جميعاً، ويريد أن ينشر التوتر ولكنه لا يجد دائماً إلا الفشل.


وفي النهاية تفشل كل محاولات التفرقة وتبقى وحدة مصر والمصريين، ولا أعرف إن كان من المفيد أن نحاول إيقاظ ضمائر هؤلاء أم أن إحياء الموتى دائماً مستحيل.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف