على امتداد التاريخ الطويل – بعد الخلفاء الراشدين – كانت قضية "الحكم بالشريعة" و"الحاكمية لله" سلاحاً في يد الحكام المستبدين، يتسترون وراء الشريعة لارتكاب جرائمهم ضد الإسلام والمسلمين، رافعين الشعارات البراقة، لتهديد كل من يقول كلمة الحق، ويجاهر بأن هذه النظم الظالمة ليست من الشريعة في شيء.. وسلاح التهديد السهل هو اتهام بالكفر والخروج على الشريعة وإنكار ما هو معلوم من الدين والاعتداء على حرمة الإسلام..
وإذا كان التاريخ القديم مليئاً بالأمثلة على ذلك في عصر الدولة الأموية، ثم العباسية، وما جاء بعدهما حتى الدولة العثمانية، فإن الأمثلة قائمة أمامنا، والنموذج الصارخ الآن هو دعوة الترابي في السودان وادعاؤه أنه يقود الحكم بالشريعة، وأنه "الإمام العادل" الذي جاء على رأس مائة عام ليجدد للناس دينهم تحقيقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما هو في الحقيقة يتخذ هذه الشعارات للاستهلاك المحلي، والتأثير على السذج الذين ينخدعون بكل قول طيب في ظاهره، وليست لديهم أدوات التحليل والفحص للتعرف على جوانب الكذب والادعاء فيه.
ولم تتكشف لنا كل جوانب "النفاق الديني" والتهريج السياسي، إلا على ألسنة قادة السودان أنفسهم المشهود لهم بالصلاح، من ذوي المكانة الدينية، والذين يصدرون في أفعالهم وأقوالهم عن خشية الله، ولا يميلون مع الهوى.. ومثال لهؤلاء ما جاء على لسان السيد الصادق المهدي، الزعيم الروحي السوداني، في دراسة أخيرة له تعري ما تخفيه ادعاءات الترابي من تدليس وزيف بأن السودان الآن يعيش في ظل الحكم بالشريعة.
يقول المهدي أن الشعار الإسلامي صارت له شعبية كبيرة في الشارع السياسي في البلدان الإسلامية، لذلك يرفع هذا الشعار كثير من الحكام، وتنادي به غالبية حركات الاحتجاج، وكثير من هؤلاء يلتمسون الشرعية للكثير من أقوالهم وأفعالهم في السلطة أو في خارجها بإلصاق ما يفعلونه بالإسلام، وكان لذلك أثره في الإساءة إلى الإسلام، وما حدث في السودان هو الدليل القائم على ذلك، فقد مر شعب السودان مرتين باندفاع حكومي لتطبيق الشريعة، وكانت النتيجة الإساءة إلى الإسلام وما حدث في السودان هو الدليل القائم على ذلك، فقد مر شعب السودان مرتين باندفاع حكومي لتطبيق الشريعة، وكانت النتيجة الإساءة إلى الإسلام وإلى المسلمين والإضرار بهما ضرراً بليغاً.. والسودان الآن يعيش فترة صراع سياسي، بين نظام حكم يناصب الشعب العداء، ويسبب له أضراراً بالغة في اقتصاده وسياسات حكمه وبالعلاقات مع دول العالم، ويخوض معركة مع المعارضة الواسعة التي ترفض وجوده واستمراره، وهذه المعركة ليست إلا معركة سياسية داخلية، ككل معركة يواجهها نظام حكم ديكتاتوري يعيش على امتصاص دم الشعب وحرمانه لكي تستحوذ على الثروة والسلطة حفنة من أتباعه وطبقة صغيرة من المنتفعين ليس لهم من هدف إلا الإثراء غير المشروع، واستغلال النفوذ، ونهب أموال الشعب، واستخدام أقصى درجات القمع والعنف لكبت حرية الرأي والمعارضة، حتى أصبح المخلصون من أبناء السودان إما في السجون، أو ضحايا الإعدام بإدعاء إنهم خارجون على شريعة الإسلام، أو هاربين من دولة الظلم لاجئون في أنحاء متفرقة من العالم ينتظرون انفراج الموقف وانتصار إرادة الشعب ومصالحه.
والقضايا التي يطرحها السيد المهدي أمام الرأي العام الإسلامي في العالم قضايا كثرة تكشف التناقض بين القول والفعل في الحكم السوداني.. فهذا النظام استولى على السلطة بانقلاب عسكري في عام 1989، وكان أول ما فعله هو إلغاء حكم قضائي قضى على مجموعة دبرت انقلاباً في 1969، وأفرج عنهم معلناً أن الانقلاب على السلطة القائمة ليس جريمة يعاقب عليها الإنسان، مع أن السلطة التي انقلب عليها كانت منتخبة من الشعب ديمقراطياً في انتخابات نزيهة تحت رقابة دولية، ولم يشكك في نزاهتها أحد في الداخل أو الخارج..وأعلن الترابي أن الشريعة الإسلامية لا تعتبر الخروج أو الانقلاب على السلطة القائمة جريمة تستوجب عقاباً.. ولكن عندما حاول بعض الضباط الانقلاب على حكومته في عام 1990 حكم عليهم بالإعدام، وكان عددهم 28 استسلموا بعد أن حصلوا على عهد بالعفو عنهم، وتمت محاكمتهم وصدر الحكم وتم تنفيذه في ساعتين فقط!.
وأعلن الترابي أن نظام الحكم القائم هو القدوة لكل نظام حكم إسلامي وأنه يقود تطبيقه (باعتباره السلطة الدينية العليا التي تحدد الحلال والحرام، وتبين ما هو من الشريعة وما ليس منها).. وأنه فوق المراجعة، وكلمته هي الشريعة وهي حكم الله، في مسائل هي بطبيعتها موضع خلاف بين فقهاء المسلمين، ولكنه حسم الأمر بترجيح اجتهاده واعتبره هو حكم الله..
في الفقه لا تكون البيعة بعد أن يقفز الحاكم على الحكم، ولكنها لابد أن تكون ابتداء وهو خارج السلطة، ليعرض الحاكم نفسه على الناس وتكون لهم الحرية في اختياره أو عدم اختياره.. أما الترابي فقد حكم بالعكس، وأن الفقه الخاص به يعطي للحاكم الحق في أن يستولى على الحكم بالانقلاب أولاً، ثم يطلب البيعة بعد ذلك، ولذلك أصدر مجموعة فتاوي شرعية لا تنطبق إلا على حالة نظام الحكم القائم في السودان.. فتاوي تبيح للحاكم حل الأحزاب، وحل البرلمان المنتخب، ووقف العمل بالدستور، وإلغاء تراخيص الصحف الحزبية والمستقلة، وإلقاء المخالفين في السجون وفصل المخالفين لما يجري من وظائفهم المدنية والعسكرية، واعتبار الرأي جريمة عقوبتها الإعدام، وأفتى بوضع برنامج أسماه برنامج "الصالح العام" يسمح للسلطة القائمة بسجن واعتقال وتعذيب كل من يختلف معها في الرأي والاجتهاد.. وفي ظل كل هذا الرعب والإرهاب أخذ البيعة لنظام حكمه بأن ساق الناس بالإكراه بصورة تعيد إلى الأذهان ما كان يفعله الطغاة الذين حكموا المسلمين في عصور ماضية، وسجلوا صفحات سوداء تشوه الشريعة وتسيء إليها أبلغ إساءة..
وتحت ستار تطبيق الشريعة أصدر الترابي فتوى بغرض أخذ الزكاة من المواطنين بالقوة، وأخذها مضاعفة، وفرض قيمتها من جانب السلطة وعدم الأخذ بإقرار صاحب المال عن المال الذي يستحق الزكاة وفقاً للشروط الشرعية، وأكثر من ذلك أفتى باستقطاع الزكاة من مرتبات الموظفين والعمال عن كل شهر وهم من فئة الفقراء المستحقة للزكاة لأن رواتبهم لا تكفي لتوفير ضرورات الحياة لهم ولأسرهم، ولأن هذه الرواتب أصلاً لا تجوز فيها الزكاة والزكاة المفروضة لا تكون إلا في المال الذي يزيد على حاجة المسلم وأسرته ومضى عليه في حوزته عام كامل.. ومن المضحك أنه أفتى بفرض الزكاة على صاحب كل سيارة يدفعها مقدماً كشرط لتجديد الرخصة أو البيع أو نقل الملكية.. وتفرض الزكاة هكذا عشوائياً دون أن يوضع في الاعتبار حاجات المالك الضرورية له ولأسرته من غذاء وكساء وسكن وتكاليف التعليم والعلاج وغير ذلك مما اتفق عليه الفقهاء في باب الزكاة، وأجمع على تطبيقه الخلفاء الراشدون اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وحتى تقدير الزكاة – في شريعة الترابي – فإنها تتأثر بالانتماء السياسي، فمن كان من أعضاء الجماعة الحاكمة تخفض له التقديرات، وتضاعف لغيرهم، وهناك قوائم تضم مئات الآلاف من أصحاب هذه الحالات، تبدأ بحالة تاجرين في منطقة سوق السجانة بالخرطوم يعملان في تجارة مواد البناء، يتساويان في الثروة، وحجم المبيعات، أحدهما عضو نشيط في جماعة الترابي فكان المطلوب منه للزكاة 280 ألف جنيه سوداني "الجنيه السوداني أصبح في قيمة المليم" ولأن الثاني لا ينتمي للجماعة فقد قدرت عليه الزكاة بمبلغ ثمانية ملايين جنيه..والقائمة طويلة جداً مستخلصة من شكاوي المواطنين وصرخاتهم..
هكذا تأتينا الصورة الكئيبة لما يجري في السودان باسم تطبيق الشريعة.. هل هذه شريعة الله أم شريعة الترابي؟.. وهل يرضى عنها الله ورسوله..؟
وبعد ذلك نجد من يقول خذوا المثل من السودان !! هل أصبح للظلم أنصار؟..أم أن الشعارات البراقة خدعتهم وأصبحوا ضحايا القول وخفيت عنهم حقائق الفعل؟.. أم أن هناك من له مصالح هنا وهناك في الدعوة إلى هذا العبث بالشريعة والعدوان عليها؟
ولعله من المفيد أن تعاد للناس قصص الحكام الطغاة الذين أذاقوا الناس العذاب وكان كل منهم يقول: أنا خليفة الله في الأرض.. كلمتي هي القانون.. وحكمي هو قضاء الله.. وأما أفتي به هو الشريعة..