طه حسين بين الشرق والغرب

كان طه حسين يفرق بين «الثقافة» و«الحضارة» ويرى أن للعالم العربى ثقافته، وللغرب ثقافته، وهو يرى ضرورة التقاء الثقافتين بحيث يقرأ أفلاطون وميروسى وفيرجيل وامرؤ القيس والجاحظ دون أن يجدو فى أنفسهم تناقضا وبذلك تكون الثقافة «عالمية» و «إنسانية».
الأدب العربى يحتاج إلى التواصل مع الأدب الغربى لأن الأدب الحى لا يعيش ولا يزدهر فى العزلة إنما يعيش ويزدهر حين يتصل بالآداب الحية والأخرى بالنقل والترجمة والتلخيص والتعريف بالأدباء العالميين القدماء والمحدثين.
لكن مشكلتنا هى الملاءمة بين الثقافة الغربية وبين قيم ومقومات الثقافة العربية، ونحن مضطرون إلى الأخذ بعلوم الغرب واستيعابها والتفاعل معها والإضافة اليها لأننا إذا اكتفينا بنقل هذه العلوم دون الإضافة اليها فنحن بذلك نجعل علوم الغرب عندنا كما يقيم الضيف.
كذلك لابد من التفاعل مع ثقافة الغرب، والثقافة فوق السياسة وفوق عداوة الناس، ويجب علينا أن نتعلم ثقافة الأعداء والأصدقاء وأن نتعلم كل لغة وليس أمامنا إلا التعامل مع الحقيقة والواقع، فالغرب متقدم علينا فى العلم والثقافة، ونهضتنا تتحقق حين نستفيد من علوم وثقافة الغرب، والتنوع هو الذى يساعد على تنمية الثقافة العربية وبلورة خصوصيتها.. وفى نفس الوقت لابد أن نكون على وعى بأن لكل ثقافة قيمًا نابعة من بيئتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لذلك حين نأخذ من ثقافات الآخرين علينا أن نأخذ أحسن ما فيها وما لا يتعارض مع القيم الخاصة بنا.. ولذلك كان طه حسين يدعو إلى التوسع فى ترجمة الفكر الغربى ويرى أن ذلك يثرى الثقافة العربية ويؤدى إلى ترقية الشعوب العربية ويمكنها من الأخذ بأسباب النهضة الحقيقية.
***
فى هذا السياق كان طه حسين ينبه إلى خطورة ما يسميه (التيه الثقافى) ويعنى به الحالة التى تجعل معظم المفكرين والمثقفين العرب مختلفين فى التوجهات العامة التى ينبغى أن تحكم المجتمع حاضرًا ومستقبلًا، وهذا الخلاف حول الاساسيات هو أبرز العلل وأكثرها خطورة على الأمم.. لهذا لا يوجد (عقل عام) يتفق على (الجذور) الواحدة للثقافة يمكن أن تنمو من هذه الجذور شجرة ثابتة ويتفرع منها بعد ذلك فروع تعبر عن الاختلاف الطبيعى بين البشر وداخل الشعب الواحد ويسبب عدم وجود (عقل عام) لا نستطيع أن نحلل العقل العربى إلى العناصر التى عملت على تكوينه. وهذا ما يجعل طه حسين يدعو إلى المثقفين إلى أن يكون بينهم قدر مشترك واتفاق عام على الإطار العام وتكون لهم بعد ذلك اختلافاتهم داخل هذا الإطار.
***
والبدء عنده هو «الاستقلال» بحيث نأخذ من الغرب ولا نذوب فيه ولا نكون تابعين له ولكى نحقق الاستقلال لابد أن تكون لدينا وسائله.
ومصر حاولت أن تحمى استقلالها منذ محمد على بتكوين جيش قوى وكدس محمد على موارد البلد للتعليم والعلم والصناعة من أجل بقاء الجيش وقوته، لأنه كان يدرك أن القوة المادية والعسكرية هى السبيل إلى الاستقلال، وكان يدرك أن «العلم» هو السبيل الوحيد إلى النهضة، وعلينا الآن أن نضيف إلى ذلك قيمة أساسية هى «الحرية» بحيث يكون الانسان هو الانسان.. الفرد.. الحر.. فى مجتمع حر.. مستقل.. فيه علماء ومفكرون يهيئ لهم المجتمع حرية البحث والتعبير ويوفر لهم كل الامكانات لكى ينهضوا بهذه الرسالة.
وكما هى العادة حاول البعض لى الفكرة فادعى أن دعوة طه حسين هى دعوة للتبعية الثقافية والفكرية للغرب، وفى هذا عدم فهم أو سوء قصد لأنه ركز كثيرًا على فكرة الاستقلال وعلى فكرة الشخصية القومية وعلى أهمية القيم العربية والإسلامية والحفاظ عليا، لأنه كان يدعو بقوة إلى إحياء التراث العربى وإعادة دراسته وتنقيته والاستفادة بكنوزه وبدأ بنفسه فى رسالته للدكتوراة فى الجامعة المصرية عن أبى العلاء ـ ورسالته للدكتوراة فى السربون عن ابن خلدون، وبمؤلفاته عن الادباء العرب القدماء والمحدثين مثل المتنبى وشوقى وحافظ، وبالمقالات والدراسات التى كان ينشرها اسبوعيًا عن الأدب العربى والأدب الغربى وأعاد دراسة الشعر الجاهلى كما أعاد كتابة تاريخ الأدب العربى والأدباء العرب فى العصور الإسلامية.
كان طه حسين يرى أن الذين يحاربون ثقافة الغرب إنما يخفون عجزهم وجهلهم، وإما أنهم يحاولون إرضاء العامة إدعاء الوطنية الجوفاء ولا يعلمون أن الغرب مهتم بالثقافة العربية القديمة والحديثة ويترجم الكثير من كتب التراث وكتب المحدثين.
ومن جانبه قام طه حسين بترجمة بعض مؤلفات لكبار أدباء الغرب، وعندما تولى مسئوليتة الإدارة الثقافية فى جامعة الدول العربية قام بتنفيذ مشروع ضخم لترجمة أعمال شكسبير إلى اللغة العربية واستعان فى ذلك بكبار الأدباء والمترجمين العرب.
***
وكان طه حسين ينبه إلى حقيقة توصل إليها مؤخرًا وهى أن السياسة استغلت العلم كما استغلت الدين واستغلت القوميات وحاربت حرية الفكر وهذا ما أدى إلى تخلف الثقافة والعلم والحضارة مع أن الحضارة العربية ازدهرت أيام العباسيين حين سعت إلى التزاوج الحضارى بين الشرق والغرب ولو نظرنا إلى الحضارة اليونانية سنجد أنها لم تزدهر وتتفوق إلا فى ظل الديمقراطية وقيام علاقة سوية بين الدولة والدين واحترام سلطان العقل وعندما سادت فكرة الدولة الدينية فى أوروبا فى العصور الوسطى تدهورت الثقافة والحضارة ودخلت أوروبا فى عصر الظلام الذى استمر عدة قرون إلى أن اتصلت أوربا بالثقافة العربية وبالحضارة العربية فى الاندلس.
***
كان طه حسين يحمل راية حرية الفكر ويكرر فى مؤلفاته ومقالاته أن الفكر هو مظهر الحياة العقلية القوية، وهو وسيلة الإنسان ليحكم على الأمور بعقله وليس بمشاعره أو بخياله، والفكر الحر يمارس النقد أى التحليل ومعرفة الجوانب المختلفة لكل قضية والتوصل إلى الصواب، والفكر الحر يقود إلى العلم المنهجى المنظم الذى لا يضع فى اعتباره إرضاء الحكام أو ارضاء العامة ولكن يضع فى اعتباره التوصل إلى الحقيقة واكتشاف الغامض من الطبيعة والكون وابتكار ما فيه الخير للبشرية.
وباختصار فإن الفكر الحر هو الطريق الوحيد للنهضة الشاملة فى كل مجالات الحياة وهو الوحيد الذى يحقق انسانية الإنسان ويرفعه إلى الدرجة التى تليق به والتى خلقه الله لها حين منحه العقل وأمره بأن يفكر ويتأمل ويتدبر فى نفسه وفى الكون بما فيه من معجزات الخالق.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف