جوهر السلام

عندما أراد بنيامين رئيس وزراء إسرائيل تقديم هدية بمناسبة عيد الميلاد إلى رئيس طائفة الروم الأرثوذكس تعمد أن يقدم هدية "سياسية" ذات دلالة، وتحمل رسالة لها معنى خطير، فقد قدم له نموذجاً مصغراً من الفضة لمدينة القدس بكل معالمها المعروفة وليس من بينها الأماكن الإسلامية المقدسة .. بل إن النموذج لم يكتف بإغفال المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ولكنه وضع مكانهما صورة مجسمة لمعبد يهودي قديم.. وكان ذلك مثار دهشة واستنكار عبرت منهما الصحف الإسرائيلية ذاتها.


ومهما يقال من محاولات التقليل من أهمية هذا الحدث فإن من حقنا أن نعتبره رسالة، أو محاولة "جس نبض" وبالونة اختبار.. وقد تعودنا منذ خمسين عاماً أن ما تقوله المنظمات اليهودية الصهيونية على سبيل الدعاية يتحول مع الزمن إلى واقع.. ابتداء من وجود إسرائيل ذاتها كدولة، وانتهاء باحتلال الأراضي العربية وادعاء حقوق لليهود فيها.. ولذلك فإننا نشعر بالقلق من تكثيف الاهتمام المبالغ فيه بزيارة قبور بعض اليهود في بلاد عربية وادعاء إنهم من أنبياء إسرائيل أو أن لهم مكانة روحية خاصة بين اليهود، ونشعر بالقلق أيضاً من الكتابات التي بدأت تظهر بإلحاح في إسرائيل وخارجها من أن اليهود هم الذين بنوا الأهرامات في مصر، وإن كان مثل هذا الكلام يبدو لنا سخيفاً ولا يعتبر إلا نوعاً من الدعابات المبحوحة إلا أن هناك في العالم ملايين لا يهمهم البحث عن الحقائق، ولا يعرفون التاريخ، ويمكن خداعهم خطوة خطوة.. والكذبة الصغيرة يمكن أن تحول بالتكرار والإصرار والإلحاح إلى حقيقة تأخذ بعد فترة شكل اليقين الذي لا يقبل المناقشة.


لذلك يجب أن ينتبه الإعلام العربي إلى أن واجبه تعقب كل الادعاءات التي تطرح في وسائل الإعلام المختلفة في أنحاء متفرقة من العالم ويرد عليها، ويفندها أولاً بأول، ويكشف زيفها، ويبطل تأثيرها قبل أن تتعمق وتتسع، ومن هذه الادعاءات مثلاً ما رددته آلة الدعاية الصهيونية من أن الفلسطينيين هم الذين يمارسون "الإرهاب" وإذا ظهرت بعض إشارات تدل على ضيق الفلسطينيين بالممارسات غير الإنسانية لقوات الاحتلال الإسرائيلي تناولتها آلة الدعاية الصهيونية على أنها .. إرهاب في حين أن حادثاً لا مثيل له كقيام ضابط إسرائيلي بالجلوس في أحد شوارع الخليل ليصطاد الفلسطينيين الآمنين وهم سائرون لقضاء مصالحهم حتى أصاب تسعة منهم..فإن آلة الدعاية الصهيونية تتحدث عنه على إنه حادث عابر وادعاء أن الضابط مختل عصبياً، مع إن المعروف أن الضباط الإسرائيليين يخضعون لاختبارات نفسية وعصبية دقيقة، ولا يقدمون على عمل إلا بأوامر صريحة أو بناء على "ضوء أخضر" صري يعفيهم من المساءلة.. وبالطبع فإن أحداً لن يسأل الضابط الإسرائيلي عن الجريمة البشعة التي ارتكبها.


ويمكن أن تستعيد تفاصيل الأزمة التي اصطنعها نيتانياهو بفتح نفق البراق، وتصعيده للأزمة إلى الحد الذي جعل قراره بتأجيل فتح النفق يبدو وكأنه تنازل يستحق أن يحصل مقابلة على تنازلات من الجانب الآخر، في الوقت الذي كشفت الأنباء أن العمل يجري في حفر نفق آخر، فالأزمة لم تحل، ولكنها مؤجلة، وحين تنفجر من جديد ستكون مضاعفة.. وفي الوقت نفسه فإن هذه البالونات الإسرائيلية قصد بها لفت الأنظار عما تفعله الحكومة الإسرائيلية بزيادة المستعمرات وإنشاء طرق جديدة والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وطردهم من مساكنهم..فالدعاية الإسرائيلية تلقي الأضواء على مشاكل فرعية وعابرة لكي تسحب هذه الأضواء عن المشكلة الحقيقية الأجدر بالاحتواء، وهي أن الحكومة الإسرائيلية تغير طبيعة الأرض والسكان.


ولاشك أن التوصل إلى اتفاق الخليل يمثل خطوة إيجابية ويفتح باب الأمل، ولكنه ليس الهدف النهائي للعرب والفلسطينيين..فهو خطوة على طريق يبدو إنه سيكون طويلاً جداً وصعباً جداً إلى أن تصل إلى السلام عند نهايته.


واتفاق إعادة الانتشار في الخليل خطوة جيدة، ولكن هناك الكثير مما يجب عمله لإزالة الصعوبات والتعقيدات التي خلقها نيتانياهو، وأهمها المعاناة، المعيشية التي يقاسي منها الفلسطينيون في ظل إجراءات الحصار الاقتصادي والأمني التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي في الضفة وغزة، وقد أشار إليها مؤخراً.. جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في مقال ذكر فيه أن دخل الفرد الفلسطيني آخذ في الهبوط منذ توقيع اتفاق أوسلو مقابل زيادة دخل الفرد في إسرائيل، مما زاد الفجوة بين مستوى معيشة الإسرائيلي والفلسطيني، وجعل دخل الفرد الفلسطيني سدس متوسط دخل الإسرائيلي، وبلغت معدلات البطالة 45% في غزة، و35% في الضفة، بينما أعلى نسبة وصلت إليها البطالة.. بين الإسرائيليين كانت 7% بالإضافة إلى حرمان 20 ألف عامل فلسطيني من الذهاب إلى أعمالهم من غزة إلى خارجها.


ولذلك فإن جيمس بيكر نفسه الذي كثيراً ما أيد وساند الإسرائيليين في دعاواهم الباطلة يعبر في مقاله عن ضرورة التعجيل بمباحثات الوضع النهائي للأراضي الفلسطيني منذ الآن لكي تصل إلى غايتها في الموعد المقرر لها في عام 1999، خاصة وهي مباحثات أصعب بكثير من مباحثات الخليل التي كان الخلاف فيها حول سلطة إسرائيل في مطاردة صبية الانتفاضة أو حرمان الفلسطينيين من المرور في أحد شوارع المدينة أما مفاوضات الوضع النهائي فإن فيها موضوعات جوهرية مثل المستوطنات،  واللاجئين، والقدس، والوضع القانوني للأراضي الفلسطينية وإذا كانت الحكومة الإسرائيلية جادة في تحقيق السلام فإن عليها ألا تطيل في خلق الصعوبات الشكلية في الأمور الصغيرة كما تفعل الآن، وتركز على القضايا الأساسية التي تمثل جوهر السلام إذا كان السلام هو هدفها حقيقة.


ويبدو أن وزراء خارجية أمريكا لا يقولون كلمة الحق إلا بعد أن يتركوا السلطة، فقد كتب جيمس بيكر بكلمات صريحة أن حكومة نيتانياهو جاءت إلى الحكم على أساس شعار "الأمن" ولكن هذا الأمن لن يتحقق لإسرائيل على المدى الطويل بدون "السلام" وعلى نيتانياهو أن يختار: كيف يريد للتاريخ أن يتذكره..؟ هل يريد دخول التاريخ بوصفه رئيس الوزراء الذي حقق السلام الآمن لإسرائيل ولجيرانها أيضاً، أم يريد دخول التاريخ بصوفه الرجل الذي قتل عملية السلام في نوبة حراسته..؟.


وجيمس بيكر يعترف أيضاً بأنه لا يمكن لأحد غير الولايات المتحدة أن يدخل راعياً لإقرار السلام، بفضل علاقتها الخاصة بإسرائيل، ودورها الخاص في الشئون العالمية، وبمقدرتها – وحدها – على إعادة عملية السلام إلى الطريق الصحيح.


وهكذا ننظر إلى اتفاق الخليل الذي تحقق أخيراً.. أنه خطوة جيدة.. انفراجة في جدار التعنت الإسرائيلي الذي يقوده نيتانياهو ..لكنه ليس الهدف.. ليس كل القضية.. القضية هي "السلام".. وتنفيذ الاتفاق الإسرائيلي الفلسطيني كاملاً.. وإعادة الجولان إلى أصحابها، وإزالة فتيل التوتر والعصبية من المنطقة..وأن يحصل كل طرف على حقه .. لا أكثر .. ولا أقل.. هذا هو جوهر السلام الذي نطالب بالسعي إلى تحقيقه.


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف