المعجزة البريطانية

كل زائر إلي بريطانيا يجد في برنامجه زيارة إلي منطقة دوكلاند التي يعتبرها البريطانيون معجزتهم، ويقدمونها علي أنها نموذج لفكر الانفتاح والقدرة علي جذب الاستثمارات الأجنبية والشركات العالمية العملاقة ومثال لحلم المستحيل الذى يمكن تحقيقه بالتخطيط الجيد والإدارة العلمية وتعاون الجهات المختلفة التي تتنازع عادة علي السلطات والاختصاصات ولا تلتفت إلي الهدف ذاته وهذه التجربة تفيدنا كدرس من دروس النجاح ونحن نخوض تجارب مماثلة في توشكي وسيناء ومحافظات الصعيد ومنطقة دوكلاند خارج العاصمة البريطانية لندن بحوالي أربعين كيلو وهي منطقة أحراش مهجورة كانت قبل ذلك أحواضا للسفن التي ترسو في ميناء لندن ولكن الميناء انتقلت فتحولت إلي أرض مهجورة مليئة ببقايا الأحواض والسفن القديمة ولا يستطيع إنسان أن يقترب منها وفكرت مارجريت تاتشر في تحويل هذه المنطقة المهجورة إلي مدينة حديثة تفوق لندن ونيويورك وتقام فيها مباني مبهرة وشوارع واسعة جدا وتحت أرض المدينة كلها جراحات تسع أي عدد محتمل من السيارات مهما تزايد لمائة سنة قادمة وفيها أحدث تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات وتتحول بذلك إلي أكبر مركز مالي عالمي ينافس المراكز المالية المعروفة.


وبدأت ثاتشر تنفيذ الحلم عام 1981 بإنشاء هيئة حكومية ليس لها عمل إلا مسئولية تنفيذ هذا المشروع وحل المشاكل التي تنشأ أمامه وهي بالطبع مشاكل كثيرة مع كل الوزارات وكل الجهات وقسمت المنطقة وهي مازالت علي الورق إلي 3 بلديات وكما هي العادة واجهت ثاتشر نقدا شديدا وتصايحت أصوات المعارضة تعلن عن المخاوف من تبديد الأموال في مشروع لن ينجح لأن أحدا من سكان لندن العاصمة لن يفكر في الانتقال إلي هذا المكان البعيد عن قلب الحياة ومركز الحركة وزادت متاعب ثاتشر من أنها كانت تقود حكومة المحافظين بينما المجالس البلدية يسيطر عليها حزب العمل المعارض الذي كان كل همه أن يثبت أن المشروع فاشل.


واستمر النقد سنوات كانت ضرورية لإغلاق الأحواض المليئة بالمياه العميقة وتجفيفها وبعدها إنشاء مطار كبير يتسع لجميع أنواع الطائرات ويعمل ليلا واستغرقت مشاكل تهجير أهل المنطقة وقتا طويلا رغم أنهم لم يزيدوا علي39 ألف شخص وظهرت فكرة إلغاء المشروع وتحويل المنطقة إلي غابة يقضي فيها سكان لندن أجازاتهم وتنقل إليها حديقة الحيوانات من قلب لندن في ريجنت بارك.


لكن المرأة الحديدية كانت لديها رؤية مستقبلية واضحة وواجهت المشاكل والاعتراضات وبدأت التنفيذ بمد خط مترو حديث يربط لندن بهذه المنطقة وإنشاء الطرق ومرافق المياه والكهرباء والطرق وطرح الأراضي للبيع للقطاع الخاص بتسهيلات وأعطت امتيازات للمشروعات الاقتصادية التي تقام في هذه المنطقة ووحدت جهات التعامل في جهة واحدة تصدر جميع التراخيص والموافقات وقررت إعفاء الشركات في هذه المنطقة من الضرائب والرسوم لمدة عشر سنوات وخصم تكلفة المباني بالكامل من الضرائب بعد ذلك.


وكانت ثاتشر تهدف إلي جعل هذه المنطقة هونج كونج بريطانيا منطقة ليس فيها أي تعقيدات أو قيود من أي نوع وأنفقت الحكومة في الفترة من عام 81 حتى 97 حوالي ملياري جنيه استرلينى فقط واستثمر القطاع الخاص من جميع أنحاء العالم عشرات المليارات بعد أن أصبحت هذه المنطقة منطقة جذب للشركات الأوروبية العملاقة حيث الأرض متاحة والتسهيلات كاملة والامتيازات مغرية.


وكان شارع فليت ستريت هو شارع الصحافة في لندن ولكن المؤسسات الصحفية الكبرى اكتشفت أن هذه المنطقة الجديدة فرصة لإنشاء دور صحيفة بتكنولوجيا متطورة فانتقلت جريدة التايمز إليها ثم تبعتها صحيفة الجارديان ثم الديلي تلجراف والديلي نيوز، والأندبندنت ووكالات الأنباء البريطانية وبعدها انتقلت المقار الرئيسية لإدارات البنوك الكبري وجاءت 3 بنوك أمريكية كبري وكل مؤسسة من هذه أقامت ناطحات سحاب وشبكات كمبيوتر واتصال بالانترنت والأقمار الصناعية وأنشأت مشاكل للعاملين فيها علي أسس هندسية جديدة وأصبحت كل مؤسسة تنافس في هندسية جديدة وأصبحت كل مؤسسة تنافس في هندسة مبانيها وضخامتها وبعد سنوات قليلة أصبحت دوكلاند هي المنافس الجديد لمدينة فرانكفورت الألمانية وغيرها من العواصم المالية والاقتصادية.


قال لي المسئول عن هيئة تعمير دوكلاند أن الفترة من 81 إلي 85 كانت فترة صعبة تصورنا فيها أن المشروع لن يتم وبعدها انطلق المشروع وجاءت المؤسسات الكبرى وأصبحت دوكلاند الأن الباب الرئيسي إلي أوروبا نتيجة تسهيل المواصلات والاتصالات وأنفقتا الكثير من الأموال لإعادة تدريب العاملين في الهيئة علي الكمبيوتر وعلي تسهيل الإجراءات للمستثمرين.


وحدثت ثورة اجتماعية في المنطقة وتدفقت أموال من اليابان وأمريكا ودول أوروبا والشرق الأقصى ويستقبل المطار ثلاثة ملايين ونصف مليون مسافر سنويا وفيها فنادق ومراكز تجارية وأنفق 150 مليون جنيه استرليني لمواجهة الزحام الذي قد يحدث بعد سنوات وجاءت الشركات الأوروبية واليابانية لتشغل أدوار هذا المبني وزرعوا 100 ألف شجرة وأنشأوا مدارس ومطاعم ودور سينما ومسارح ولم يتبق إلا شهور وينتهي عمل الهيئة التي قامت بكل هذا العمل الخارق والجميع يشعرون بالفخر وهم يعرضون أمام الزائر أفلاما سينمائية وصورا عن المنطقة قبل عام 81 وتطورها سنة بعد سنة حتى أصبحت تنافس لندن في الاتساع والمباني والتكنولوجيا ومساحات الخضرة والخدمات وأصبحت بحق مركزا ماليا وصناعيا عالميا بنظرة مستقبلية.


وهذه التجربة تقدم لنا النموذج الذى تحتاجه هيئة واحدة تتجمع فيها كل الاختصاصات ولا يحتاج المستثمر إلي التعامل مع أي جهة غيرها موظفون يتم تدريبهم وأعدادهم لتسهيل العمل وخدمة المستثمر مرافق أساسية كاملة علي أعلي مستوي تكنولوجي ليس هناك شيء ناقص يمكن الاعتذار عنه والدولة كلها وراء المشروع.


وكالعادة أيضا فأن المعارضة التي ملأت الدنيا صياحا وتحذيرا من مخاطر المشروع وتبديد الأموال في الأحراش هي التي تفاخر بالمشروع الأن وتضع الخطط للتوسع فيه فالفشل له أب واحد والنجاح له أباء كثيرون ونقطة البداية الصحيحة هي إزالة العوائق والتعقيدات وبعدها كل شيء ممكن والأموال في أوروبا وآسيا كثيرة تبحث عن مجال للاستثمار لكنها لا تأتي إلا حين تطمئن إلي الجدية وسهولة الحركة.


حين رأيت المشروع أدركت أن أحلام تعمير منطقة توشكي وسيناء ومحافظات الصعيد والوادي الجديد سوف تتحقق إذا اتبعنا هذا الأسلوب وعملنا بهذه الروح فالمعجزة البريطانية قابلة للتكرار.


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف