عندما بدأت مارجريت تاتشر في بيع الشركات الكبرى والمرافق بسرعة واندفاع، وقيل أيامها أنها تمثل قيادة تاريخية، ولا تقل عن جورباتشوف، لأنها غيرت تركيبة المجتمع البريطاني، وأنشأت فيه نظاما اقتصاديا جديدا.. وقيل أيضا أن كل من يريد الإصلاح الاقتصادي، عليه أن يتبع نموذج تاتشر، ويندفع في الخصخصة بشجاعة مثلها.. وبعد سنوات ظهرت نتائج هذه الشجاعة، وفقد حزب المحافظين ثقة البريطانيين، وجاء حزب العمال لإصلاح ما يمكن إصلاحه من الآثار السلبية لهذا الاندفاع المتعجل.
والدروس التي استمعت إليها في بريطانيا – هذا الأسبوع – تتلخص أولا في السير بهدوء وثبات على طريق الخصخصة، بالقدر الذي تحتمله ظروف الاقتصاد في كل بلد، وثانيا عدم الاندفاع في الإصلاح الاقتصادي على أسس اقتصادية فنية، وإغفال العنصر الإنساني والاجتماعي في القضية .. لأن الخصخصة لها آثار إيجابية لابد من وضع هذه الآليات بعد ذلك، لأنها سوف تبدو وكأنها انتقاص من حرية أصحاب الأموال والمستثمرين، أو سلبا للامتيازات التي حصلوا عليها.. ومن هذه الآثار الجانبية: رفع الأسعار.. والسعي إلى تحقيق الربح السريع بأسهل الطرق، ودون إضافة حقيقة للاقتصادية، ولا إتاحة فرص عمل جديدة.. ومثل تحول ثمار العمل الاجتماعي لصالح فئة محدودة على حساب حقوق الملايين، ومثل تغيير الهرم الاجتماعي، بما يؤدي إلى توتر قد يصعب علاجه.. وهناك ما هو أهم.
هناك مفهوم الاقتصاد الحر أو آليات السوق.. المفهوم يخضع لأهواء أصحاب المصالح.. فهناك من يرى أن معناه إطلاق يد القطاع الخاص، ليفعل ما يشاء، ويختار ميدان النشاط.. ويحدد الأسعار.. ويضع لنفسه حدود الربح الذي يريده.. دون حسيب أو رقيب.. وليس للدولة التي تتدخل، وإذا تدخلت فإن ذلك عدوان على قانون الاقتصاد الحر.. وكل ما هو مطلوب من الدولة، هو أن تعطي امتيازات لأصحاب الأموال، بتشجيعهم على الاستثمار، بإعفائهم من الضرائب والرسوم، وإطلاق يدهم بأكبر قدر ممكن في التعامل مع العمال، وفي النهاية فإن هذا المفهوم لابد، وأن ينتهي بالمجتمع إلى كارثة.
في بريطانيا الآن تحولت المرافق والشركات الكبرى إلى القطاع الخاص، وأكثرها في شكل شركات مساهمة ولكن الدولة الموجودة، لم يتراجع دورها، ولم تتنازل عن مسئوليتها..
فالدولة تشرف على عملية البيع لضمان عدم وجود عمولات وفساد..
والدولة تضع نظاما للإشراف والرقابة على القطاع الخاص، وذلك بإنشاء هيئة حكومية لها استقلالها، تراقب وتتدخل، لضمان عدم الاحتكار.. وتساعد على إنشاء شركات جديدة لتدخل في منافسة مع الشركات القائمة.. حتى هيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية، حين تحولت إلى شركة مساهمة، تدخلت هيئة O.F.T.L لإنشاء شركات ثانية ثم شركة ثالثة، إلا أن أصبحت الآن 200 شركة تتنافس على تقديم خدمة التليفونات بأرخص سعر وأفضل خدمة، وتعلن عن مزاياها الجديدة التي تقدمها كل يوم لخدمة المتعاملين معها، ونتيجة لذلك فإن خدمة التليفونات في بريطانيا، أصبحت أفضل وأكفأ وأرخص في ظل الخصخصة، واستفاد الشعب البريطاني بالخصخصة، وجنى ثمارها.. ولم تذهب الثمار لأصحاب الأموال وحدهم.. وهذا ما حدث أيضا في الكهرباء.
أن ضمانات وجود المنافسة وعدم الاحتكار من ناحية، وحماية المستهلك من الغش من ناحية أخرى، هما من أهم الضمانات في بريطانيا.. وقد وصلت قوة هيئات حماية المستهلك إلى حد أن مجرد تقديم شكوى إليها عن وجود عيب في سلعة، أو غش، أو بيع بأكثر من السعر، يتبعه عقاب رادع، تخشى معه الشركات الكبرى والتجار الصغار على السواء..
ولا تستطيع شركة قطاع خاص في بريطانيا، زيادة أسعار بيع منتجاتها، وخدماتها دون الرجوع إلى هيئة O.F.T.L، وهي التي تسمح أو لا تسمح بذلك بعد دراسة التكلفة ونسبة التضخم، وزيادة أجور العمالة.
ولا يستطيع أحد القول إن النظام الاقتصادي البريطاني نظام شمولي أو اشتراكي، فهو نظام رأسمالي مائة في المائة، ولكن الرأسمالية في آخر القرن العشرين مختلفة عن رأسمالية أول هذا القرن، والنتيجة أن أسعار خدمة التليفونات انخفضت الآن إلى نصف ما كانت عليه، حين كانت تدار بهيئة حكومية، وحدث نفس الشئ في القطارات والكهرباء وغيرها.. وهذا هو السر في نجاح بريطانيا أخيرا، في إثبات أن الخصخصة هي النظام الأفضل للعمال والمستهلكين، وليست لصالح أصحاب الأموال وحدهم.
والنظام البريطاني هو المثل الأعلى للدول الأوروبية الآن، ويتلخص في مبدأ بسيط هو إطلاق قوى المنافسة، ووجود هيئة قوية حازمة للإشراف على نزاهة وصدق المنافسة، ولا يمكن القول إن هذا التدخل سيؤدي إلى خسارة أصحاب الشركات، لأن الذي حدث في بريطانيا هو العكس، فقد حققت أكبر شركة للاتصالات B.T ربحا بلغ 2 مليار جنيه إسترليني، بعد سداد الضرائب.. وبلغت إيراداتها 14 مليار جنيه إسترليني، وقد قررت في مشروعات جديدة، مع أن هذه الشركة ذاتها سبق أن أنفقت 20 مليار جنيه إسترليني، على تحسين وتجديد شبكة التليفونات، وإدخال تكنولوجيا جديدة.
ونتيجة لإدارة العملية، التي تتبعها الشركات التي يتم تخصيصها، يتم الاستغناء عن عدد من العمال، وقد أعدوا لذلك قواعد عادلة.. خروج العمال، وقد أعدوا لذلك عادلة.. خروج العمال بناء على رغبتهم.. ويحصلون على تعويض عادل.. ونقابات العمال تدرك أن إعادة توزيع العمالة، أمر لابد منه يحقق مصلحة الشركات، ومصلحة المجتمع، ومصلحة العمال أيضا..
ولكي تضمن هيئة O.F.T.L نزاهة المنافسة، فإنها تواجه أحيانا حالات خفض الأسعار بشكل مبالغ فيه من إحدى الشركات الكبرى، لكي تدفع بقية الشركات إلى الإفلاس، وفي هذه الحالة فإن هذه الهيئة تتدخل وتجبر الشركة على رفع السعر إلى الحد المنافس..
باختصار أن نظام الخصخصة نظام متكامل، له قواعد، وآليات، وضمانات ولا يكفي أن نبيع الشركات، فإن هذا في حد ذاته لن يحقق شيئا إلا أن تجنى أصحاب الأموال أرباحا طائلة وينتهي الأمر، وقد يصل إلى الاحتكار ويصح الاقتصاد الوطني في يد قلة محدودة.. لذلك أقول: لابد أن نأخذ النظام كله.. ولا نكتفي بالبيع.. فهذا نصف النظام فقط، والنصف الثاني هو الأهم على المدى الطويل..