حلم نيتانياهو المستحيل
منذ أيام عرض نيتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي على حكومته رؤية للتسوية النهائية كما يراها، وكشف عن نياته في الاستيلاء على "القدس الكبرى" التي تشمل القدس الغربية والشرقية كما تشمل عددا من المستوطنات المحيطة بها إلى أن تصل إلى مستوطنات بيت لحم ووادي الأردن بأكمله، مما يعني أن أكثر من نصف الصفة الغربية سيكون جزءا من "إسرائيل الكبرى" ولن يبقى للفلسطينيين إلا بضع مناطق متفرقة يعيشون فيها تحت رحمة القوات الإسرائيلية، وهذا هو "الحلم المستحيل" الذي يحلم به نيتانياهو منذ كان سفيرا للبلاد في أمريكا.
هذه الرؤية التوسعية الاستعمارية التي تكشف بهذه الصراحة في مجلس الوزراء الإسرائيلي أشعلت مناطق الحكم الذاتي بالتوتر من جديد، وتزايدت حدة الانفعالات لدى الشعوب العربية رغم ما هو ظاهر من هدوء الحكام، ووجدت حركة حماس سببا جديدا لإقناع الفلسطينيين بصحة خط العنف كرد فعل للعنف والإرهاب من الجانب الإسرائيلي.
والتصوير الدقيق لنيات حكومة إسرائيل سمعته في الرباط من العاهل المغربي الملك الحسن حين قال أن فلسطين أشبه بثمرة "جوز الهند" وأن حكومات إسرائيل المتعاقبة أحدثت ثقبا في هذه الثمرة وامتصت ما في داخلها،وبدأت تفتت الثمرة من الداخل جزءا جزءا وتلتهمه، بعد أن تكون قد أكلت كل ما يصلح للأكل، ولا يتبقى إلا القشرة الخارجية التي لا تصلح لشئ فسوف تقدمها في التسوية النهائية وتقول أنها بذلك تقدم من التنازلات ما يكفي ويزيد.
فليست نيات نيتانياهو خافية على أحد إذن وهو نفسه سبق أن أعلن هذه النيات في برنامجه الانتخابي، وفي أحاديثه الصحفية، ولقاءاته مع الجماعات اليهودية في أمريكا، كما أنه طرح رؤيته كاملة وصريحة في كتاب "مكان بين الأمم: إسرائيل والعالم" وفيه دافع طويلا عن حق اليهود في أرض "فلسطين"، وعن قدرة إسرائيل على إحلال السلام في المنطقة بالقوة والقمع، باعتبار أن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، ولابد أن تتعامل مع الدكتاتوريات والشعوب العربية بالأسلوب الذي يليق بها، ونيتانياهو في هذه الرؤية المبكرة يلعن بها، ونيتانياهو في هذه الرؤية المبكرة يعلن موقفه الذي يتلخص في أن فلسطين هي "أرض إسرائيل" وليس للفلسطينيين حق فيها، ولأن إسرائيل تنتمي إلى الغرب،فإن العرب يكرهون إسرائيل، لكي يعبروا من خلالها عن كراهيتهم للغرب.. وإذا كنا نرى أن هذا الكتاب ليس إلا مجموعة من الأكاذيب التاريخية والسياسية إلا أنه وجد صدى في المجتمع الإسرائيلي بدليل وصول نيتانياهو إلى السلطة بناء على ما فيه من وعود بقهر العرب وفرض لإرادة إسرائيل وتبرير للروح العدائية المليئة بالكراهية للعرب عموما وللفلسطينيين بشكل خاص، ونيتانياهو يؤسس نظريته على أنها انهيار الاتحاد السوفيتي، وهزيمة العراق واستحالة قيام حرب بين إسرائيل والعرب.. كل ذلك خلق ظروفا دولية لتحقيق الهدف الإسرائيلي، وهو تحقيق تسويات سلمية مع العرب لا تسلب من إسرائيل مكاسبها في حرب 67. وأي تسوية.
في نظرة لابد أن تكون على أساس الإبقاء على الأرض العربية ضمن حدود إسرائيل على أنها "غنيمة حرب" أو على أنها أرض اليهود عادت إليهم...!
وعلى من يريد أن يفهم نيتانياهو جيدا لابد أن يقرأ هذا الكتاب بفهم نيتانياهو جيدا لابد أن يقرأ هذا الكتاب قراءة جيدة.. ففيه صرح بعزمه على القيام بانقلاب لإلغاء كل ما وقعت عليه حكومة العمل على عهد رابين وبيريز من اتفاقات تعطي للفلسطينيين بعض الحقوق التي يمكن أن تعيد الأمل في قيام دولة فلسطينية، يعلن أن الدعاية العربية هي المسئولة عن هذا التحول من جانب حكومة حزب العمل عن الأهداف الإستراتيجية الإسرائيلية، لأن الدعاية العربية نجحت في التغلغل بعمق داخل أوساط واسعة من اليسار الإسرائيلي، واقترنت بالإرهاب والانتفاضة للدعاء بأن الفلسطينيين لهم حق في أرض إسرائيل (!).. وهو يعيب على الإسرائيليين أنهم يجهلون حقهم في أرضهم (!) ويجهلون تاريخ النزاع العربي الإسرائيلي، والأهداف الحقيقية لمنظمة التحرير،والخطر الفظيع الذي لا يمكن تداركه، إذا عادت إسرائيل إلى خطوط 1967.. وهو يحذر من تيار داخلي بين اليهود أنفسهم معاد للأهداف اليهودية وحاقد على المشروع الصهيوني، وهذا التيار قادم في الأساس من يهود أوروبا الشرقية، ومعنى ذلك أن كل يهودي يقبل الانسحاب من الأرض العربية أو إقامة دولة فلسطينية فهو "خائن لإسرائيل" وهو يؤكد أن الاستعداد لتقديم تنازلات بعيدة المدى الذي تمت تغطيته بقبول حكومة رابين للانسحاب من غزة وأريحا كجزء من اتفاق أوسلو أكثر خطورة على مستقبل إسرائيل من الهجمات الخارجية، لأن تنازل دولة إسرائيل عن المبادئ الصهيونية هو تنازل عن مصدر حياتها، وبذلك تبدأ في الذبول.. وهو يصرح بأن الافتراض بأن تصحيح الظلم الذي لحق بالعرب عن طريق إعادة الضفة إلى الحكم الغربي افتراض فارغ، والصواب في نظره أن حق إسرائيل في الخليل وبيت لحم لا يقل عن حقها في حيفا ويافا والنقب، وأي قبول للانسحاب الإسرائيلي من الضفة سيعطي الفلسطينيين الحق في المطالبة بالانسحاب من مناطق أخرى.. وهكذا لن تنتهي المطالب العربية (!).. وهو يحذر – حتى من قبل أن يصبح رئيسا للوزارة من أن الاستمرار في تطبيق اتفاق أوسلو سيؤدي إلى تطويع إسرائيل بحزام من قواعد الإرهاب الإسلامي هدفه القضاء على دولة إسرائيل.
نيتانياهو يحدد في هذا الكتاب معالم الطريق لإسرائيل في القرن الحادي والعشرين.. لها كل الأرض "العربية" وأن كان يستعمل عبارة "الثبات على أرض إسرائيل واستئناف السيادة اليهودية وقوة الدفاع اليهودية وأحياء الثقافة اليهودية.. وهذه مؤشرات لثورة كبرى في وضعنا القومي تؤدي إلى قبول لدى معظم جيراننا كحقيقة قائمة ولضمان مستقبل الشعب اليهودي كله".
جهور القضية أن الصراع العربي الإسرائيلي لم يصل إلى نهايته كما تصور المتفائلون من العرب.. فالعرب متعجلون دائما، وحسنوا الظن دائما، وبعضهم انقلب من العداء إلى الصداقة في لحظة، ولكن الأمور على الجانب الآخر ليست كذلك وقادة إسرائيل لا يخفون شيئاً.. وما زالوا يظنون أن العرب لا يقرأون.. وأن قرأوا لا يفهمون .. وأن فهموا لا يصدقون!
ومادام الصراع طويلا – كما يقرر نيتانياهو فلابد أن نعيد ترتيب الأوضاع العربي على هذا الأساس وأن نضع الخطط لسياسات النفس الطويل.. وإذا كان نيتانياهو يراهن على أن الوقت لصالح إسرائيل فإن العرب يستطيعون أن يثبتوا عكس ذلك.. ليدرك المسرفون في الأحلام المستحيلة في إسرائيل أن العرب مازالت لديهم القدرة وليسوا في عجلة من أمرهم ولن ينفذ صبرهم أبدا.
حلم نيتانياهو أن يفقد العرب صبرهم ويقبلوا أي شئ هو أيضا حلم مستحيل.