طـه حسين والشيخ الشعراوى
كان الشيخ متولى الشعراوى معجبا بطه حسين منذ صباه وفى حديث صحفى قال إنه سمع عن طه حسين وهو طالب صغير ، وكان طه حسين فى ذلك الوقت يوصف بأنه «عميد الأدب العربى» ، وكان الشيخ الشعراوى مولعا بقراءة الأدب وبخاصة أدب طه حسين لتميزه فى عرض أفكاره وسلاسة التعبير.
وفى هذا الحديث قال الشيخ الشعراوى للأستاذ إبراهيم عبد العزيز إنه كان معجبا بطه حسين لأنه لم يكن يأتى بالمعانى المعقدة لكنه يترك المعانى حتى تختمر لديه ثم تخرج للناس سهلة بشكل طبيعى.. «وكنت أقرأ للعقاد الذى كان مشتركا فى المكتبات العالمية التى توافيه بأحدث كتبها قبل أن تصل إلى الناس فتكون لديه أفكار جديدة لا ينتظر حتى يهضمها قبل أن ينشرها على الناس لذلك نجد فيها شيئا من عسر الهضم، بينما نجد أسلوب طه حسين أسلوبا سلسا ونجد أن الفكرة واضحة لأنه هضمها واختمرت فى عقله.. وعندما كبرنا بعض الشىء وشغلنا إلى جانب أسلوب طه حسين بموافقة من الأزهر وبعض قضايا الإسلام ظهر عندنا بالنسبة له وجدنان - وجدان إعجاب بلغته وأسلوبه، ووجدان آخر تكوّن لدنيا بسبب كتابه «فى الشعر الجاهلى»، ولما كبرنا أكثر وجدنا طه حسين علما من أعلام الوفد وبلدنا كلها وفدية، فاجتمع فى حبنا لأسلوب حبنا لوفديته، فصار له فى نفوسنا مزيج «ملخبط» وعندما زار طه حسين مكة وكنت أعمل فيها فى الجامعة قدمنى زملائى للاحتفال به بقصيدة، ودعوت الله أن يعيننى على أن أوتى طه حسين حقه فيما له، «وأمسك أذنه» فيما عليه!
***
اثناء طه حسين للأراضى المقدسة كان الشيخ الشعراوى يعمل بمكة أستاذا فى كلية الشريعة، وكان طه حسين فى مكة لأداء العمرة وأقام أمير مكة حفلا لتكريمه تبارى الشعراء السعوديون فى إلقاء قصائد التكريم وإلقى الشيخ الشعراوى قصيدة طويلة تزيد على مائة بيت من أبياتها:
هو طه فى خير كل قديــم وجديد على نبــوغ ســـواء
وهو غربى كل فكر حلال أزهرى الحجا والاستقصــاء
كرموه وكرموا العلم لمــا كلفــوه صياغـة الأبنـــاء
ياعميد البيان أنت زعيـــم بالأمـانـــات أريحـى الأداء
لك فى العلم مبدأ (طحسنـى سرى فى العالمين مسرى ذكاء
يجعل العلم للرعية جمعـا مشاعا كالماء بل كالهـواء
وقرت مهنــة العلــم حتـى صيرتهــا رسالــة الأنبيـــاء
يا فريد الأسلوب قد صنعته من نغم ساحر شجى الغناء
كـم قديـم جلوتـه فتبدى رائعـا فى تواضـع الكبرياء
وجمال الإسلام فى وعدك الحق تجلى فيه جلال الفـداء
هامش السيرة الحبيبة فيه تنغنى سماحة الأنبـياء
ياعميد البيان لا تحرم الأزهر عـونـــا يصائـــب الآراء
***
وقال الشيخ الشعراوى إن القصيدة أعجبت طه حسين وأعجبت كل الموجودين، وكان له تعليق على كل بيت فيها حتى إنه قال: لو لم يكن فى حياتى من تكريم سوى هذه الأبيات لكفتنى.
ويذكر الدكتور محمد حسن الزيات وزير الخارجية الأسبق وزوج ابنة طه حسين فى كتابه «ما بعد الأيام» إن طه حسين قال عن هذه القصيدة «استغفر الله لأخينا الشعراوى ولأنفسنا.. لقد قرأت قصيدته، وهى طويلة جدا، وكان الشيخ أمين الخولى فى صحبة طه حسين فى هذه الرحلة وكان تعليقه على القصيدة أنها جمعت فأوعت.. وحين وقف طه حسين ليوجه التحية إلى الداعين لهذا الحفل وللشعراء والخطباء وقال فى كلمته فى إشارة إلى قصيدة الشيخ الشعراوى: «إن زملائى المصريين أكثروا وأسرفوا على أنفسهم وعلى الناس.. دعوا أخاكم هذا الضعيف وما قدم إليكم من خير قليل واصنعوا خيرا مما صنع وأريحوه من إطالة الغناء لأنها تخجله وتشعره بأنه يسمع ما ليس له الحق فيه.. وأكرر لكم شكوى واعتذارى إذا لم أستطع. ولن أستطيع - أن أرد إليهم بعض ما أنا مدين لكم به من الشكر.. وظل الشيخ الشعراوى - رحمه الله - يذكر هذا اليوم كلما جاءت سيرة طه حسين أمامه.
***
فى هذه الرحلة إلى الأراضى المقدسة أدى طه حسين العمرة وكرر زيارة الكعبة وحسين أراد الذهاب إلى المدينة لزيارة قبر الرسول كانت السيول قد قطعت الطريق بين مكة والمدينة ولم يكن ممكنا أن يذهب بالسيارات وليس أمامه إلا الذهاب بالطائرة، وطه حسين لم يركب طائرة من قبل فكانت هذه أول مرة فى حياته يركب فيها الطائرة وبعد ذلك كتب يصف هذه الرحلة فقال: أول ما شعرت به - ومازلت أشعر به - هو الذى يجده الغريب حين يؤوب بعد غيبة طويلة جدا إلى مواطن عقله وقلبه وروحه». وعندما كان فى طريقة إلى مكة طلب الوقوف عند الحديبية ونزل من السيارة فقبض بيده قبضة من ترابها فشمها ثم تمتم ودموعه تنساب: والله إنى لأشم رائحة محمد صلى الله عليه وسلم فى هذا التراب الطاهر.
***
وروى الشيخ أمين الخولى أن طه حسين أمام الكعبة تسلم الحجر باكيا واستمر فى الطواف وهو يبكى وكان أمين الخولى فى رفقته، واستغرق فى مناجاة ربه قائلا بصوت متهدج: اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفرلى ما قدمت وأخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهى لا إله إلا أنت».. وكان طه حسين يردد هذا الدعاء فى كل وقت بعد ذلك حتى إنه ختم به خطابه فى فلورنسا أمام مؤتمر الحضارة المسيحية وردده باللغة الفرنسية، ولم يكن ينتهى من إلقائه حتى دوتن قاعة المؤتمر بتصفيق شديد.
***
ووصف طه حسين شعوره أمام الكعبة فى حديث مع كامل الشناوى فقال: أخذتنى الرهبة والخشية والخشوع كل مأخذ عندما كنت وحدى وكنت فى هذه المرة الواحدة مع الناس ومع نفسى فى وقت واحد.
وكان رأى الشيخ الشعراوى أن عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين وغيره كالدكتور مصطفى محمود، بدأوا حياتهم الفكرية متشككين ثم انتهوا إلى الهدى واليقين، ولهذا يجب ألا نحاسبهم ونؤاخذهم على أوليات خواطرهم وما كتبوه فى مرحلة الشك لأنهم بعد ذلك ثبت إيمانهم وكتبوا فى الإسلام وعنه كأفضل ما يكون، وانتهت حياتهم إلى التوبة والصلاح.
وكتب الشيخ الشعراوى كلمات قال فيها: خير تكريم لطه حسين أن أسأل الله النفع لكل من أخذ عنه، وقرأ له حتى يتصل خير عطائه لكل أبناء العروبة إلى أن تقوم الساعة.. رحمة وجزاء على ما قدم للغة القرآن