قضية الملكية الفكرية..

خلال العام الماضي اشتدت الضغوط الأمريكية على الدول النامية – ومن بينها مصر – لكي تتنازل عن فترة السماح الممنوحة لها في اتفاقية التجارة العالمية وقبول تنفيذ القيود والالتزامات عليها فوراً وتتخذ هذه الضغوط أشكالاً متعددة، مرة بالتهديد، ومرة بالإغراء بأن قبول هذه القيود سيعود على الدول النامية بعائد اقتصادي كبير.. أو بترويج فكرة أن الدول المتحضرة هي التي تقبل القيود، ومصر يجب أن تثبت إنها دولة متحضرة..!


وفي كل اجتماع لمجلس الرئاسة لرجال الأعمال المصريين والأمريكيين تثار هذه المسألة ويشتد الضغط لكي تتنازل مصر عن فترة السماح، مع أن هذا التنازل يعني أعباء على المستهلك المصري لا طاقة بها، ولا قدرة له على تحملها، كما يعني ضرب صناعات محلية مازالت في مراحل النمو الأولي وتحتاج إلى حماية ورعاية خاصة، ولا تقدر على الحياة مع عواصف المنافسة من الشركات الأمريكية والأوربية العملاقة عابرة القارات.. ولذلك فإن الأمر يحتاج إلى تفهم جيد للقضية قبل اتخاذ قرر قد يكلفنا الكثير وبخاصة في صناعة إستراتيجية تمس حياة كل مصري هي صناعة الدواء.


فاتفاقية التجارة العالمية وقعت في إبريل 1994، وأصبحت سارية من يناير 1995، وفيها ثلاث ملاحق أهمها اتفاقية الملكية الفكرية التي يطلق عليها اختصاراً بالإنجليزية، اتفاقية التربس" ويبدأ تنفيذها عام 1996، أما الدول النامية فإن الاتفاقية تعطيها فترة سماح أربع سنوات للاستعداد وتعديل أوضاعها لتتفق مع النظام الصارم الجديد، وفوق ذلك فإن الدول النامية من حقها خمس سنوات أخرى إضافية من حق كل دولة أن تستفيد بها، بمجرد إخطار منظمة التجارة العالمية دون حاجة إلى موافقة منها.. وأكثر من ذلك فغن الدول الأقل نمواً لها فترة سماح عشر سنوات.. وهذا كله مقصود به تقليل الدول النامية للقيود الشديدة التي تفرضها الاتفاقية عليها والالتزامات التي تكبل اقتصادها وتهدد صناعاتها الوليدة وتكرس تفوق الدول الكبرى بحيث يستمر تفوقها وامتيازها ولا يتبقى للدول النامية إلا أن تدفع وتتحول إلى سوق لشراء المنتجات والتكنولوجيا، ولا تجد فرصة لإقامة صناعة أو تكنولوجيا جيدة.


وعلى سبيل المثال فإن هذه الاتفاقية تسحب الحماية على براءات اختراع أي مادة، أو دواء جاهز، أو تكنولوجيا مستخدمة في الإنتاج أيا كان نوعها.. وكانت اتفاقية برن تجعل مدة الحماية للاختراعات عشر سنوات وبعدها يصبح الاختراع ملكاً للبشرية تستطيع أي دولة أن تتجه دون قيود أو التزامات، فأصبحت مدة الحماية لأي اختراع عشرين عاماً في الاتفاقية الجديدة ومعنى ذلك أن تظل الدول الكبرى صاحبه الحق الوحيد في إنتاج واستغلال كل الاختراعات والمنتجات الجديدة لمدة عشرين عاماً بدلاً من عشرة وتتضاعف فترة الحظر على الدول النامية فلا تستطيع التفكير في أخذ هذه الاختراعات وإنتاجها وليس أمامها إلا أن تشتري المنتجات.. وبالنسبة للدواء لا يكون أمامنا بالنسبة لكل دواء جديد إلا أن نشتريه وندفع فيه السعر الذي يحدده المنتج الأصلي، وهو سعر سوف يؤدي إلى زيادة أسعار نسبة كبيرة من الأدوية الحالية التي تنتجها الشركات المصرية، ويتوقع خبراء الدواء أن يزيد السعر خمسة أضعاف الأسعار الحالية، لأن الشركات المصرية تعتمد على إنتاج أدوية تم اختراعها في أمريكا وأوروبا ومضت فترة السنوات العشر على اختراعها وأصبح من حقنا إنتاجها، فإذا وقعنا اتفاقية الملكية الفكرية الجديدة فسوف يصبح محظوراً علينا إنتاجها بالمجان، ونتطوع بقبول استيراد هذه الأدوية من الشركات العالمية بالسعر العالمي أو أن نشتري حق الإنتاج بسعر مبالغ فيه..


والقضية المثارة الآن هي: إذا كانت الاتفاقية ذاتها تعطينا الحق في فترة سماح.. وإذا كانت الدول النامية كلها لا تترد في الاستفادة بهذه الفترة كاملة، وحتى آخر لحظة لتؤجل بقدر الإمكان الأعباء والمخاطر القادمة من تنفيذ هذه الاتفاقية، فلماذا نتطوع نحن، ونوقع بأنفسنا تنازلاً عن حق أو ميزة مقرر لنا في الاتفاقية..!


المفروض أن مصر ليست ملزمة بالقيود التي تفرضها اتفاقية الملكية الفكرية حتى عام 2005، أي أن أمامنا ثماني سنوات نستطيع خلالها أن نعيد ترتيب أوضاعنا.. نعيد ترتيب مراكز ومؤسسات البحث العلمي لتصبح أكثر فاعلية وقدرة على مسايرة التطور العالمي..ونعيد تنظيم الشركات الصناعية على أساس جديد يجعلها قادرة على التطور بالاعتماد على نفسها، وقادرة على تجديد واختراع وتطوير الأجهزة والآلات بأيدي المهندسين والعلماء والخبراء المصريين..أما أن نقبل تطبيق الاتفاقية الآن وفوراً، ونتطوع بإعطاء الشركات الأمريكية والأوروبية سلاحاً لفرض إرادتها وتحقيق أرباح خيالية على حساب المستهلك المصري.. ونحن في مواقف الضعف.. فإن هذا التصرف لا يستند في منطق مقنع.


وبعض رجال الأعمال المصريين متحمسون للإسراع في توقيع الاتفاقية والتنازل عن فترة السماح، ودوافعهم في ذلك أن يصبحوا وكلاء للشركات صاحبة الاختراعات ويحققوا أرباحاً طائلة، وإن كان ذلك على حساب الصناعة المصرية.. وهم يبررون حماسهم بدعاوي غير مقنعة.. يقولون أن مصر يجب أن تكون مع الدول الكبرى فتسارع بالتوقيع مثلها ولا تقبل أن تكون مع الدول الصغرى وتستفيد من المهلة.. ويقولون أن الاقتصاد المصري كي يحقق الاندماج في الاقتصاد العالمي يجب قبول القواعد السائدة في هذا الاقتصاد العالمي.. ويقولون أن ارتفاع الأسعار المتوقع أمر طبيعي يجب أن نقبله كنتيجة للاندماج في الاقتصاد العالمي..ويقولون أيضاً أن الصناعة المصرية سوف تتأثر لأنها متخلفة.. وحين تصبح مهددة بالإفلاس ستعمل بكل قوة لتطوير نفسها في ظل المنافسة العالمية التي لا ترحم وتصل إلى المستوى العالمي.. ويقولون أكثر من ذلك أن قبول تنفيذ هذه الاتفاقية الآن والتنازل عن المهلة سيعطي مصر الحق في طلب حقوقها في الملكية الفكرية عن الأفلام والأغاني التي تذاع وتعرض في دول كثيرة ولا تدفع عنها شيئاً لأنها لا تستفيد من حماية العشرين عاماً.


وفي رأيي أن الطريق إلى جهنم مفروش بالنيات الطيبة..


وبإغراءات الشيطان المعسولة.. وأن كل ما نحققه من فوائد لا يعوض شيئاً من حجم الخسارة التي ستتحملها.. ويكفي أن العاملين في صناعة الدواء ينتظرون الآن أن تصاب صناعتهم بالتخلف أو بالتوقف.. المهتمون بمستوى معيشة وصحة المصريين يشعرون بالقلق الشديد لأن مضاعفة أسعار الأدوية المهمة خمسة أضعاف سيجعل العلاج بالنسبة للمواطن العادي مستحيلاً.. وكيف يتحمل المواطن الدواء بسعره الحالي مضروباً في خمسة إذا كان غير قادر على تحمله بالسعر الحالي ويشكو منه..؟


لذلك أقول بأن القضية تحتاج إلى نظر..


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف