حق الفرد.. وسلطة الدولة

ستقرت في مصر الآن مبادئ الشرعية الدستورية وسيادة القانون، وكان للمحكمة الدستورية وسيادة القانون، وكان للمحكمة الدستورية دور كبير في ذلك، فقد سجلت هذه المحكمة صفحات سيذكرها التاريخ في حماية الحريات، وبذلت في ذلك جهداً كبيراً وقدمت أحكاماً فيها من الفكر القانوني الخلاق ما يدعونا إلى الفخر والاعتزاز بها.


ومن الطبيعي في مرحلة تحول كبرى كهذه المرحلة التي يعيشها المجتمع المصري وتشمل تغيير المبادئ والنظم وأساليب الممارسة في الحياة الاقتصادية والسياسية أن تشارك كل مؤسسات الدولة في إزالة القيود المتبقية من المراحل السابقة، وتحديد المبادئ والقيم التي تلائم فلسفة وتوجهات هذه المرحلة ومن هنا تظهر أهمية مراجعة القوانين القائمة وإلغاء ما يتعارض معها والإبقاء فقط على ما يساعدنا على التقدم إلى أن يصبح لدينا نظام قانوني متكامل يتفق مع حياتنا الجديدة وهذه المهمة تقوم بها السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، ويبقى للسلطة القضائية أن تؤدي رسالتها وهي تحقيق الضبط والتوازن في النظام التشريعي، وعلى قمة السلطة القضائية أصبحت المحكمة الدستورية الحصن الحصين للحريات وصاحبة القول الفصل في الإصلاح التشريعي.


والقضية التي تتصدى لها المحكمة الدستورية منذ سنوات هي قضية العلاقة بين الفرد والدولة.. بين حقوق الفرد وكيفية حمايتها.. وسلطة الدولة وكيفية وضع الضوابط لها.. وهي قضية بالغة الدقة، تشغل الباحثين في العلوم السياسية والقانونية بحثاً عن التوازن بين الجانبين، بحيث لا تطغي سلطة الدولة على حرية الفرد وحقوقه الطبيعية، ولا تتسع حرية الفرد بأكثر من القدر الذي يحفظ حرية الآخرين وحماية المجتمع ككل خاصة أن هناك من يسعى إلى الدعوة إلى الحرية الفردية الاقتصادية والسياسية بطريقة عشوائية تجعلهم يطالبون بإنهاء سلطة الدولة وحصرها في الدفاع والأمن والخدمات فقط، وهذه أفكار تخلى عنها أصحابها منذ زمن طويل.


وخلال السنوات الماضية أصدرت المحكمة الدستورية أحكاماً بالغة الأهمية وضعت بكل حكم منها حجراً في البناء القانوني للمجتمع العربي الجديد، وبخاصة في أوضاع الملكية الخاصة وحرية التملك وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وبهذه الأحكام تزيل عن كاهل المواطنين أوضاعاً ظالمة ظلت قائمة ومستقرة لعشرات السنين حتى ساد الظن بأن تغيرها مستحيل، ومثال ذلك الحكم الذي صدر منذ أيام بإلغاء مادة في قانون صدر عام 1955 يعطي وزير التعليم الحق في الاستيلاء على المباني الخالية دون موافقة أصحابها ويبقى هذا الاستيلاء دون أجل محدد، بحيث يفقد المالك أول حق من حقوق الملكية ويعطي للوزير أيضاً سلطة تحديد الإيجار من جانب واحد ويسلب المالك هذا الحق، وهو ما تبقى له من حقوق الملكية.


وظل هذا القانون قائماً بآثاره منذ عام 1955 وإن كان وزير التعليم الحالي الدكتور حسين كامل بهاء الدين لم يلجأ إلى استخدام هذه السلطة ولم يصدر قرارات استيلاء على مبان إلا أن المباني التي تم استيلاء الوزارة عليها في السنوات الماضية مازالت مغتصبة.


وبداية القضية ذاتها كانت واقعة مثيرة، فقد استولت وزارة التعليم منذ سنوات على فيلا في الجيزة وحددت إيجارها ستين جنيهاً شهرياً ثم قامت بإزالة حديقة الفيلا وأقامت فيها مباني، وكل ذلك دون الحصول على موافقة المالك، أو حتى إخطاره وحين طلب المالك من الوزارة أن تستولى على الفيلا بالشراء أو نزع الملكية رفضت الوزارة وفي عام 1991 أي منذ أكثر من خمس سنوات لجأ المالك إلى القضاء يطلب إلغاء قرار الوزارة أو تعديل الإيجار المعقول فرفضت المحكمة الابتدائية الدعوى استناداً إلى القانون الذي يطلق يد الوزارة في أملاك الأفراد، ولجأ المالك إلى المحكمة الدستورية لتحكم إن كان هذا القانون يتفق مع الدستور الذي ينص على حماية حقوق الملكية أم لا، وسمحت له محكمة الاستئناف باللجوء إلى المحكمة الدستورية باعتبارها الملاذ الأخير القادر على إلغاء قانون جائر لا يتفق مع مبادئ وروح الدستور.


وجاء حكم المحكمة الدستورية إعلاناً جديداً باحترام الملكية وحماية حرية الفرد المتعلقة بالملكية وأعتقد أن المبادئ التي أرستها المحكمة يجب أن تكون موضع بحث من السلطتين التنفيذية والتشريعية لتنقية جميع القوانين وإعادة النظر فيها في ضوء المبادئ ومنها:


أن الدولة يجب أن تتقيد بقواعد قانونية تضبط أعمالها وتصرفاتها.


وأن حرية التعاقد هي الأصل في العقود جميعاً، وكل تعاقد تغيب فيه هذه الحرية يكون باطلاً.


وأن استيلاء الدولة على ما يملكه الأفراد غير جائز إلا في حالات الضرورة وهذه الضرورة يجب أن تقدر بقدرها ولا تتوسع الدولة فيها.. والاستيلاء إذا استمر يصبح اغتصاباً أو نزعاً للملكية دون اعتبار لإرادة المالك فيما يملك، وإذا كان من حق الدولة في بعض حالات الضرورة الاستيلاء على ما يملكه الأفراد، فإن هذه السلطة يجب ألا تستخدم في تعطيل حق المالك في الحصول على تعويض عادل وكامل إذا كانت هناك مصلحة عامة تستلزم نزع الملكية أما الاستيلاء دون حد زمني وفرض علاقة إيجارية رغم إرادة المالك، فإن ذلك في حقيقته عدوان على حق الملكية وتجريد للمالك من كل حقوق الملكية.


وأن الحماية التي كفلها الدستور للملكية الخاصة في إطار وظيفتها الاجتماعية تفرض على الدولة عدم المبالغة في وضع القيود عليها إلى حد أن تفقدها سبب وجودها، ولا يتفق مع هذه الحماية أن يكون مع المالك سند الملكية ولا يستطيع ممارسة حقوق الملكية طيلة حياته.


وأن الدولة التي يفرض عليها الدستور حماية الملكية الفردية يجب عليها أن تمارس عملها على أساس أن حماية الملكية وإعاقتها لا يجتمعان ولا يتفق مع الدستور أن يكون القرار الإداري من وزير بديلاً من عقد الإيجار، لأنه صادر من أحد طرفي العلاقة، وفيه إهدار لحقوق الطرف الآخر صاحب الحق فيما يملك، وإذا نشأت ضرورة تجعل الاستيلاء أمراً لا مفر منه لتحقيق مصلحة عامة للمجتمع فلابد أن تكون لمدة محدودة لا تتجاوزها وبمقابل عادل، وأن تخلو من شبهة تعطيل حق الملكية، أو نزع الملكية دون تعويض عادل مما يمثل أسوأ صور العدوان على الملكية لأنه عدوان يتستر بالقانون.


هكذا تتصدى المحكمة الدستورية لحماية الشرعية كحارس قادر وأمين على الدستور ويبقى أن تضع الحكومة والسلطة التشريعية موضع التطبيق في جميع القوانين لكي تستقر الأوضاع والمراكز القانونية على أساس الشرعية الدستورية دون أن تكبد كل مواطن مشقة الحصول على حقه بعد سنوات تستغرقها مراحل التقاضي.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف