أحوال معيشة المصريين!

مجموعة نادرة من العلماء والسياسيين جلسوا حول مائدة بحث، حول موضوع واحد هو "الإنسان" في مصر، كيف يعيش الآن، وما هي المشاكل التي تعترض حياته، وهل يتحرك إلى الإمام أم إلى الخلف.. هل يلمس تحسناً في نوعية الحياة، وكيف ستكون حياته غداً في ظل السياسات الحالية، وما هي السياسات التي يجب أن تبقى والسياسات التي يجب أن تتغير؟..


أسئلة كثيرة تفجرت من عقول أكثر من ثلاثين أستاذاً من أكبر أساتذة الاقتصاد والاجتماع في مصر، ومعهم نخبة من أساتذة معهد التخطيط، وممثلون للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، وشاركهم في النقاش – الذي استمر ثلاث أيام متصلة في قرية سياحية منعزلة في محافظة الإسماعيلية – الدكتور محمود شريف وزير الإدارة المحلية، واللواء محمد عبد السلام المحجوب محافظ الإسماعيلية، والمستشار عدلي حسين محافظ المنوفية، والدكتور محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق، وتفجرت قضايا ساخنة واشتدت خلافات الآراء، وأخيراً تبلورت رؤية مبدئية عن مؤشرات حاضر ومستقبل المصريين ستكون نواة التقدير الجديد عن التنمية البشرية في مصر الذي أصبح من أهم وأدق التقارير التي يعتمد عليها الباحثون والمسئولون عن التخطيط ووضع السياسات.


كان ملحوظاً الاختلاف الشديد بين المفكرين نتيجة اختلاف المدارس العلمية التي ينتمون إليها، وعدم التوصل حتى الآن إلى مدرسة علمية مصرية عربية في الاقتصاد والاجتماع، وهذه مشكلة حقيقية، لأن الالتقاء عند نقطة واحدة كاد يصبح مستحيلاً لولا وضوح الفكر وبساطة العرض اللذين قاد بهما الدكتور محمود شريف المناقشات، ومع الحرية الكاملة في المناقشات، ظهرت أفكار كثيرة جديرة بالتأمل.


من هذه الأفكار – مثلاً – ما قاله الدكتور عبد المجيد فراج أستاذ الاقتصاد بعد استعراض ورقة عمل عن أوضاع الفقر والفقراء، إن الفقراء ليسوا عبئاً على الاقتصاد القومي كما يتصور كثير من الباحثين، ولكنهم يتحولون إلى عبء على الدولة وعلى الاقتصاد في حالة عدم الاستفادة منهم كقوة عمل ومصدر إنتاج، وأهم من ذلك أن المجتمع يقدم خدمات لتحسين نوعية الحياة بالنسبة للفقراء ولكن لا أحد يعرف إن كان الفقراء يستفيدون فعلاً من هذه البرامج أم يستفيد بها غيرهم، وحتى الآن مازالت المرأة الفقيرة أقل حظاً في الحصول على المساعدات والقروض، ومازال الرجل يستأثر بالنصيب الأكبر.


وتساءلت الدكتورة كريمة كريم أستاذ الاقتصاد بتجارة الأزهر عن أسباب عدم دراسة موضوعين في غاية الأهمية، أولهما بحث الآليات التي تؤدي إلى توريث الفقر من جيل لآخر، وثانيهما بحث ظروف ما صارت إليه أحوال الفقراء القدامى التقليديين والفقراء الجدد الذين ظهروا في مرحلة التحول والانتقال من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق، ومدى كفاية – أو عدم كفاية – ما يقدم لهم من برامج بعضها جاد وبعضها وهمي.


وآثار الدكتور جودة عبد الخالق أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية أكثر من قضية تمس الأحوال المعيشية للفقراء، وهي أن المؤشرات التي تدل على أن معدل الفقر ثابت تغفل أن زيادة السكان مع بقاء نسبة الفقراء معناها زيادة عدد الفقراء دون أن يظهر ذلك في النسبة المئوية، وأن مشكلة السكن هي المشكلة الأولى التي تمس حياة الفقراء في الصميم، وقد أنفقت الدولة آلاف الملايين من الجنيهات في بناء المساكن، ولا يزال السؤال هو: من الذي حصل على هذه المساكن.. هل حصل عليها الأكثر احتياجاً، أم الأكثر قدرة على ذلك بالتحايل بصورة مختلفة بصرف النظر عن احتياجه؟..


ولماذا نركز على العشوائيات في مساكن الفقراء وهي مساكن أقيمت بغير تخطيط أو قواعد منظمة وحتى دون أن يكون لأصحابها حق الانتفاع بالأرض التي أقاموا عليها مساكنهم، إن جاز أن نسميها مساكن، بينما هناك عشوائيات الأغنياء في قرى الساحل الشمالي التي أقيمت دون تخطيط شامل ودون إقامة الصرف الصحي اللازم لها، أو الساحل بإقامة مجتمعات متكاملة تمد آفاق الحياة والعمران طوال العام وليس لشهرين أو ثلاثة أشهر فقط.


ونوقشت أبحاث ميدانية كشفت عن أن محافظات الصعيد هي أكثر المحافظات فقراً، وأن محافظة سوهاج بالذات هي الأولى بين المحافظات الفقيرة، وتليها أسيوط وقنا، وأشارت الدراسات إلى أن الشرائح الدنيا من الفقراء تحسنت أحوالهم قليلاً، بينما الشريحة الأعلى انخفض مستوى الحياة، وازدياد نسبة انقطاع البنات عن التعليم، وارتفاع نسبة الأسر التي تعولها الإناث حتى أن 41% من الأسر الفقيرة تعولها امرأة، مع ازدياد تعرض النساء عن الرجال لأمراض الفقر مثل الأنيميا، وانتشار أساليب غير صحية للحياة في المناطق العشوائية، لأن سكانها يعيشون خارج الإطار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ومن هنا تكون هذه المناطق بيئة لظهور ونمو الإرهاب والجريمة بكل صورهما، وهناك 1034 منطقة عشوائية في كل المحافظات، وظهرت هذه المناطق أيضاً في الريف.


ومع ازدياد حدة المناقشات حول ظاهرة الفقر وحياة الفقراء ومدى اتفاقها واختلافها مع الدول العربية والأوروبية ظهرت فكرة إنشاء بنك من نوع جديد. وكانت صاحبة الفكرة هي الدكتورة كريمة كريم بدأتها بشرح تجربة بنجلاديش في إنشاء بنك مخصص لإقراض الفقراء قروضاً صغيرة دون التعقيدات المعتادة في البنوك، ودون ضمانات، ومع مساعدة من البنك للعميل في اختيار المشروع الذي يناسبه ومتابعته لحل مشاكله، وإيجاد وسيلة تعينه على الحصول على كسب يكفيه ويكفي أسرته، وقد نجح بنك بنجلاديش في تحويل قطاع من الفقراء العاطلين إلى منتجين، وانتقل ثلثهم من حالة الفقر إلى حالة أخرى وأصبحوا من ذوي الدخل المنتظم.


المشكلة أن إنشاء مثل هذا البنك في مصر يحتاج إلى موافقة البنك المركزي أولاً، ثم إصدار قانون خاص به يحدد مجال عمله وهو مختلف عن بنك ناصر في فلسفة العمل، ويحتاج قبل كل ذلك إلى مجموعة من المساهمين تهمهم قضية الفقر والفقراء ويرغبون في المساعدة في حلها.


كانت الندوة متعددة الاهتمامات، وتشعبت فيها مسارات البحث، ولكنها كانت تلتقي دائماً عند نقطة البحث عن مستقبل أفضل للفئات المحرومة في ظل مناخ جديد يسمح بالتفاؤل، ويشجع على العمل للنهوض بالقطاعات الأكثر احتياجاً للخدمة، وهذا هو البعد الاجتماعي الذي لا غنى عنه، والذي يجب أن تكون له الأولوية في سياسات الحكومة، وجهود القادرين.


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف