منذ بداية هذا العام اتضحت معالم الطريق الجديد للعمل الوطني، وتبلورت فلسفة جديدة، وظهرت روح جديدة للعمل والانجاز، ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة، ولكنه كان نتاجاً طبيعياً لعمل جاد مخطط استمر 15 عاماً، واجهنا فيها تحديثات كثرة، واستطعنا أن نصل إلى بر الأمان بعد سنوات عشناها وسط أمواج الخطر الذي وصل بالأمور إلى حافة الانهيار والإفلاس الاقتصادي.
والآن اختلفت الصورة، ولم يكن ذلك بمعجزة هبطت علينا من حيث لا ندري، وإنما بالعمل والإخلاص والإصرار على الانتصار على العقبات والمشاكل مهما يكن حجمها ومصدرها، وآن الأوان لنحدد القضايا الإستراتيجية في المرحلة القادمة وما تفرضها من التزامات، لكي يشارك عن بصيرة، ويتحول إلى طرف أصيل في المسئولية..
وأولى القضايا الإستراتيجية في هذه المرحلة هي السلام، وهو خيار أجمعت عليه الإرادة الشعبية في العالم، وليس هناك من يشك في ضرورة السلام، ولكن تبقى هناك قضايا تتعلق بهذا الخيار تحتاج إلى وضوح الرؤية.. مثل: ما حقيقة موقف الحكومة الإسرائيلية من تجميد عملية السلام وإظهار نوايا السلام، بينما يدل سلوكها على العكس.. هل يدل على أن السلام هو أيضاً خيار إسرائيل..؟ وهل إرادة الإسرائيليين متجهة إلى السلام أم تعارضه أم تتخذه ذريعة لتحقيق أهداف لم تستطع إسرائيل أن تحققها بالحرب؟ وهل لدى العرب سيناريوهات لكل حالة أم أنهم وضعوا سيناريو واحداً لا يجدون له بديلاً..؟ وهل يمكن أن ينساق العرب إلى اللعبة الإسرائيلية بوضع قضية الخليل على أنها لب الصراع العربي الإسرائيلي، أم أنها مجرد جزء من كل، وأن التعثر فيها يعني أن إسرائيل سوف تضع العراقيل أمام كل جزء آخر مما يشكك في نواياها للوصول إلى الهدف النهائي وهو السلام..؟ وهل يمكن أن يقوم تعاون اقتصادي بين الدول العربية وإسرائيل في ظل مواقف الحكومة الحالية، بمعنى هل يمكن فصل عملية السلام عن هدف التطبيع والتعاون الإقليمي، واعتبار أن الخلاف القائم "لا يفسد للود قضية" وهو خلاف جوهره أن حكومة إسرائيل تريد التوسع في بناء المستوطنات بينما تلزمها الاتفاقات بأن تسلم هذه الأرض للسلطة الفلسطينية.
كما تريد هذه الحكومة أن تظل صاحبة اليد الطولى بحيث تفرض الحصار على الفلسطينيين في أي وقت فتحرمهم من العمل والتنقل والحصول على لقمة العيش، وتريد أن تظل لها حرية استباحة أرض وكرامة الفلسطينيين في أي وقت تحت ستار مطاردة "الإرهابيين" ومفهوم أن هذه الحكومة تعتبر كل الفلسطينيين إرهابيين دون استثناء، ورئيس الوزراء الإسرائيلي لا يخفي ذلك ولا ينكره.
فقضية السلام، باعتبارها من الثوابت العربية تحتاج إلى حوار جديد، حوار لا يتناول هل السلام ممكن أم لا .. فالسلام ممكن .. وهو ضروري بل هو حتمي ولا سبيل سواه لإسرائيل وللعرب.. ولكن أي سلام.. وبأي وسائل.. وفي ظل أي ظروف.. كذلك فإن العرب محتاجون إلى إعادة التفكير في مواقف الأطراف المشاركة في عملية السلام لتحديد من يعمل للسلام العادل، ومن يضغط ليحول السلام إلى عملية سكوت عربي على العدوان الإسرائيلي المستمر على الأرض والحقوق العربية.
لقد اتفق القادة العرب في قمة القاهرة على أن السلام خيار إستراتيجي، وقامت منظمة التحرير بإلغاء ما طلبت إسرائيل إلغاءه من الميثاق الوطني الفلسطيني، وبقى أن يلتقي العرب ليبحثوا ماذا قدم العرب للسلام، وماذا قدمت إسرائيل، وكيف ستكون المواقف العربية موحدة في كل حالة يمكن أن تستجد في المرحلة القادمة، ما دمنا سنعايش هذا التوتر الذي يحرص السيد نيتانياهو على زيادته كل يوم بتصرفاته لا تتسم بالاتزان ولا تدل على حسن النوايا.
باختصار نقول نعم للسلام وبلا تردد، ولكن ذلك وحده لا يكفي، لأن هناك قضايا بالغة الأهمية تترتب على ذلك لابد من مناقشتها والاتفاق عليها لكي يعيش العرب في حالة سلام مع أنفسهم حين يكونون على بينة بحقائق ما يحدث الآن واحتمالات ما يمكن أن يحدث مستقبلاً والموقف العربي المناسب لكل احتمال..
وهذه هي القضية الأولى..
القضية الإستراتيجية الثانية هي "التنمية" وخلال الشهور الأخيرة شهد العالم كيف أثمرت سياسات مصر وأدت إلى انطلاق التنمية في الصحاري "مدن جديدة" وإسكان للشباب.. وتعمير سيناء.. وتعمير جنوب مصر بالكامل.. وواد جديد.. وفروع جديدة للنيل تمتد في الشرق وفي الجنوب لتغير جغرافية مصر بالكامل.. ومشروعات استثمار صناعي وسياحي.. ومرافق أساسية وخدمات..
عملية التنمية التي تحدث في مصر الآن لم تحدث في قرن كامل، من حيث الكم والزمن، حتى ليصدق القول بأن مصر تسابق الزمن لتخرج من القرن العشرين، وقد حققت تجديداً شاملاً يجعلها قادرة على دخول المنافسة الضارية التي تنتظر كل الدول في القرن القادم، والويل لمن سيدخل هذا القرن قبل أن يكتمل استعداده.
وقضية التنمية التي لا خلاف عليها تتفرع منها قضايا كثيرة لم تحسم بوضوح وبالقدر الكافي.. ما دور الدولة بالضبط.. هل توجه وتراقب وتسهل فقط أم تتقدم بإنشاء المشروعات الكبرى؟ ..وعائد بيع القطاع العام أين سيذهب بالضبط لسداد ديون القطاع العام أم لإنشاء مشروعات جديدة أم لزيادة خدمات التعليم والصحة والمرافق؟.. وما مدى الحماية التي ستتوافر للفقراء في مجتمع سيكون فيه التنافس طبيعياً وقوياً على امتلاك أكبر قدر من الثروة بأيسر السبل وفي أسرع وقت وهذا هو جوهر نظام الاقتصاد الحر في الغرب.. أم ستكون لنا رؤية مختلفة؟ ..وما هي؟.. ونظام الاقتصاد الحر ينتهي – عملياً وبالضرورة – بالاحتكار، وفي دول الغرب آليات متعددة لحماية المجتمع من الاحتكار واستغلال أصحاب الثروة وحماية الطبقات الفقيرة، وفي أمريكا بالذات وسائل متعددة لذلك.. فما هي الوسائل التي أعددناها لحماية المجتمع من الوصول إلى نقطة الخطر المتوقعة والمحتملة..؟ وكيف سنحمي الفقراء في مجتمع سيكون من حق الأغنياء فيه أن يزدادوا غنى.. على حساب من ..؟ وبأي وسيلة..؟
هذه بعض الأسئلة حول قضيتين فقط من القضايا الإستراتيجية التي ندخل بها القرن القادم، وهناك قضايا أخرى تفرض أسئلة عديدة..
وأظن أن واجبنا الآن أن نجمع كل الأسئلة ونضعها أمام مؤتمر وطني ليشارك الجميع في تحديد الإجابات التي ستحدد مستقبل الوطن..