إسلاميات طه حسين [4-4]

فى كتابه «مرآة الإسلام» يقدم طه حسين صورة شديدة الوضوح والدقة عن حياة النبى ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه وعن أحوال مكة والمدينة قبل البعثة وبعدها، وأحوال يهود ونصارى المدينة ونزول الوحى فى شأنهم ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ).. كما يصور أحوال ومكائد وخداع المنافقين وكيف كانوا خطرا فى أيام السلم وأشد خطرا فى أيام الحرب.

وبهذا الكتاب أراد طه حسين أن يقدم مسار الدعوة الإسلامية عبر التاريخ، وأن يؤرخ بمنهج علمى لانقسام المسلمين وتفرقهم فى السياسة وفى الدين وكيف أفسدت السياسة كثيرًا من المفاهيم والأحكام الدينية حتى صار بعضهم يكفّر بعضا وبذلك بدأ الفساد فى الحياة العقلية للمسلمين بسبب «الأحزاب» المختصمة إلى حد بلغ فيه الانقسام داخل كل حزب وكل طائفة. تفرقت الشيعة إلى فرق، وانقسم الخوارج إلى طوائف، وانشق من «الجماعة» من ألفوا فرقا وأحزابا وصدق فيهم قول الشاعر:

وتفرقوا شيعا فكل جزيرة

فيها أمير ومنبر!

وهذا ما أساء إلى الإسلام وأعطى أعداءه الحجة لتشويهه والإساءة إليه، لأن الفارق كان كبيرا بين أصحاب النبى ( صلى الله عليه وسلم ) الذين كانوا جماعة واحدة ولم يسرفوا فى الجدال، بينما كانت الخصومة شديدة بين الفرق الإسلامية بعد عثمان وعلى حتى حكمت الخوارج بالكفر على الإمام على وأصحابه، وكفر معاوية وأصحابه، وحكمت الشيعة بكفر معاوية ومن ناصره من أهل الشام.. واستمرت الفرق تتقاذف بالكفر فيما عدا «المعتزلة» الذين فضلوا الابتعاد عن الجميع طلبا للنجاة من هذه الفتنة.

***

ويصور طه حسين بدقة كيف نشأت الجماعات السرية نتيجة لتعدد الأحزاب وتشتت المسلمين فبدأت بعض المذاهب السياسية فى القرن الثانى للهجرة إلى العمل السرى فكانت مصدر اضطرابات هددت المجتمع الإسلامى.. وانتهى الحال أخيرا إلى تجمد العقل الفقهى، فكان الفقهاء يبدأون ويعيدون فيما قال قدماؤهم، وصار الفقه تكرارا لما فى الكتب القديمة يقدمونها مختصرة وتوضع لها الشروح وتضاف إليها الحواش إلى أن صار فى كل بلد من بلاد المسلمين أكثر من مرجعية دينية وقاض لكل مذهب، فكان فى مدينة كالقاهرة قاض للحنفية، وآخر للشافعية، وثالث للمالكية، وهكذا خيم الجمود على المجتمع الإسلامى.. صارت العلوم كلها إلى الجمود.. وصارت عقول العلماء إلى الجمود.. وصار الجمود شيئا تتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل.. ثم تعرضت العقول للخرافات والأساطير والأكاذيب.. وأغلقت أبواب العلم والتفكير.. ولم يعد للعقل دورا فى المجتمع.. وأطبق على علماء الأمة وعامتها سحب كثيفة من الجهل وفساد الفكر، وأصبح الأستاذة والطلاب أشبه بالببغاء يكرر منهم ما سمعه من أستاذه بلفظه.

***

عندماوصل المجتمع الإسلامى إلى هذه الحالة انتهزت الدول الأجنبية الفرصة.. حين وجدت المسلمين غارقين فى الجهل والغفلة والضعف المادى والروحى وانتشر فيهم الفساد فى كل شىء حتى أصاب اللغة العربية، وأصاب العلوم العقلية والتجريبية، ولم تعد العقول تبتكر شيئا.. حالة الضعف والاستسلام والجهل والانقسام كانت دعوة للغزاة وللاحتلال الأجنبى الذى لم يترك بلدا من بلاد المسلمين دون أن يفرض عليه استبداده ويضيف من أسباب الجهل والضعف ما يضمن للاحتلال البقاء ونهب ثروات البلاد الإسلامية.

***

فى رسالة الدكتوراه التى أعدها الدكتور عمر مقداد الجمنى الأستاذ بجامعة تونس استعرض مؤلفات طه حسين فى التاريخ الإسلامى ورأى أن أغلب الذين كتبوا عن طه حسين لم يعطوا مؤلفاته حقها ولم يقدروا الجهد الكبير الذى بذله فى البحث والاستقصاء والتحليل والاستنتاج، بينما هناك إجماع بين الباحثين المتخصصين على أن كتاب «على هامش السيدة» وكتاب «الوعد الحق» عملان فنيان رائعان، كما أن هناك إجماع على أن كتاب «الفتنة الكبرى هو أكثر كتبه قيمة من الناحيتين العلمية والمنهجية، وأن الجزء الأول (عثمان) أكثر عمقا وخطرا والجزء الثانى (علي وبنوه) يتميز بالموضوعية والأمانة العلمية ويظهر فيه حبه للإمام على دون أن يجعله ذلك يتجاهل المآخذ التى جعلته يلقى هذا المصير ويلقاه الإمام الحسين أيضا رضى الله عنهما، ولا نجد فى كتابات طه حسين عموما تقديسا للأشخاص أو تنزيها لهم ولا أحد من شخصيات التاريخ فوق النقد الموضوعى، فهو يرى أن الإمام علي إنسان يخطئ ويصيب وإن كان من أفضل المؤمنين، وقد تجاوز طه حسين الخلاف بين السُنّة والشيعة حول مبايعة أبى بكر وعمر ولم يتعصب لطرف منهما وإنما احتفظ بالحياد والموضوعية، وقد تقبل السُنّة والشيعة هذا الموقف حتى أن الشيخ الشعراوى كتب قصيدة من مائة بيت فى تمجيد أعمال طه حسين، وبعث شيعة العراق بشكرهم إليه وترجم شيعة إيران إلى اللغة الفارسية كتاب الفتنة الكبرى بجزئيه (عثمان وعلي وبنوه) كما ترجموا كتاب «على هامش السيرة».

وقد كتب توفيق الحكيم مقالا فى مجلة الهلال (أغسطس 1978) عن كتاب «على هامش السيرة» قال فيه «إن فى هذا الكتاب دفاع عن الإسلام، وهو يسلك الطريق المستقيم فى الكلام عن الإسلام ويخلق جوا شعريا يحبب النفس فى سيرة النبى وبيئته، وقد دافع طه حسين عن الإسلام فى هذا الكتاب وإن كان لم يقصد ذلك».

أما طه حسين فقد قال إنه يهدف بكتاباته الإسلامية إلى أن يجتهد المسلمون ليسيروا فى أمور دينهم ودنياهم كما كان النبى وأصحابه والصالحون، ويخلصوا عقولهم وقلوبهم مما أصابها من التقليد والجمود والأوهام، وقالت بنت الشاطئ إن طه حسين وهو يكتب عن ماضى المسلمين فإنه يتصل بواقع حياتهم، وقال المفكر الراحل عبد الوهاب المسيرى إن كتابات طه حسين الإسلامية فى الحقيقة تعبير عن نضوج فى مواجهة العقول المتحجرة، وقال الدكتور لويس عوض إن إسلاميات طه حسين مواجهة للتهديد الداهم يرجعه إلى العصور الوسطى.. وقال طه حسين عن كتاباته الإسلامية كانت تكريسا للصراع من أجل حرية الفكر، فقد كانت التفسيرات للتاريخ الإسلامى غير علمية «وجئت بروح فدائية تقتحم هذا الميدان المغلق لنوقظ المسلمين على تاريخهم الحقيقى.. لقد فضلنا إنقاذ مئات الألوف من هيمنة دكتاتورية الجهل وعبودية (دولة الخرافة)».

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف