نحن والهند
حرصت حكومة الهند الاهتمام البالغ بزيارة شيخ الأزهر الشريف لها.. في البداية طلبت الحكومة الهندية مد فترة الزيارة التي كان مقرراً لها ثلاثة أيام فأصبحت سبعة أيام..وعاملت فضيلته معاملة رؤساء لدول من حيث البروتوكول..واستضافته في قصر الضيافة الذي ينزل فيه الملوك ورؤساء الدول.. ووضعت طائرة خاصة تحت تصرفه للانتقالات بين الولايات.. وكان في استقباله وفي وداعه في كل مدينة أحد الوزراء وحاكم الولاية.. كما كان في صحبته وكيل وزراء الخارجية وعدد من المسئولين فيها.. واستقبله نائب رئيس الجمهورية فور وصوله في المساء إلى نيودلهي.. كما بدأ رئيس الوزراء أيضاً باستقباله في صباح اليوم التالي.. وتضمن برنامجه لقاءات مع قيادات مسئولة على مستوى عال في الحكومة، ومع قيادات المجتمع الإسلامي في شتى الولايات، ومع أساتذة الجامعات الإسلامية..وفي كل هذه اللقاءات كان حكومة الهند حريصة على توجيه أكثر من رسالة إلى مصر: قيادة وشعباً.
أرادت حكومة الهند أن تظهر حرارة المشاعر، والرغبة في زيادة العلاقات مع مصر في جميع المجالات، وقد بدأ كل مسئول حديثه إلى فضيلة الإمام الأكبر بتقدير الهند لدور الرئيس مبارك البارز على الساحتين العربية والعالمية، وبالتعبير عن إدراك أهمية الأزهر الذي يمثل مركز إشعاع روحياً وثقافياً في العالم كله، وبتقدير خاص لشخصية الإمام الأكبر الشيخ محمد سيد طنطاوي وقد أجمعوا على أنهم يتابعون دوره في الربط بين الإسلام وبين الحياة المعاصرة بما فيها من قضايا ومشاكل لم تعفها البشرية من قبل، وتحتاج إلى فكر خلاق لإيجاد حلول وإجابات لها لا تتعارض مع ثوابت الدين أو تطورات الحضارة الإنسانية المتلاحقة، حتى أن نائب رئيس الجمهورية وصف الدكتور طنطاوي بأنه شخصية عالمية بارزة بين المفكرين المعاصرين، وقال عنه وزير الداخلية الهندي أنه خير من يمثل القيم الإنسانية التي تسعى إليها البشرية بما يؤكد عليه من قيم التسامح، والحرية الإنسانية، واحترام العقل، وتشجيع التقدم والتطور، والدعوة إلى الأخوة الإنسانية..
وفي كل مناسبة كان الحديث يبدأ بالإشارة إلى التأثير العالمي الذي حققه تعاون الهند ومصر ويوجوسلافيا على أيدي نهرو وعبد الناصر وتيتو في حركة عدم الانحياز التي برهنت على أن الدول الصغرى قادرة على التعامل في عالم القوى الكبرى، ودائماً كانت تأتي إلى الإشارة إلى أن دول العالم الثالث تحتاج إلى جهد من هذا النوع لمساعدتها في أزمتها التي تعاني منها في النظام العالمي الجديد.. وإذا كانت هذه الحركة حركة سياسية في المقام الأول إلا أنها تحتاج إلى دعم وتأييد من كل المؤسسات المؤثرة في العقول والاتجاهات، وفي مقدمتها الأزهر الشريف الذي يدافع عن قيم العدالة بين الأفراد والشعوب على حد سواء.
وكما أن صورة الإسلام والمسلمين بشكل عام تتعرض للتشويه وسوف الفهم، نتيجة الإرهاب والممارسات العدوانية من بعض من يرتكبون الجرائم وينسبونها إلى الإسلام، فإن صورة المسلمين في الهند تتعرض بالذات للتشويه، نتيجة وقوع حوادث عنف ضدهم من طوائف وجماعات متطرفة، ومثل هذه الجماعات تمارس العنف والإرهاب ضد المسلمين وضد غيرهم، لأنها جماعات إرهابية في ذاتها، وتستخدم الإرهاب لفرض سيطرتها، ويحركها الجهل، والفهم الخاطئ لدينها.. وفي النهاية فإن الصورة تبدو وكأن المسلمين وحدهم هم الذين يعانون من الإرهاب، بينما الحقيقة أن المجتمع الهندي كله يعاني من الإرهاب من وضد كل الطوائف والفئات.
ولا يستطيع أن يفهم ما يجري في الهند إلا من يزورها ويعرف طبيعة هذا البلد..وهو تكوين خاص بها، بل هو شديد الخصوصية.. ففي الهند 120 مليون مسلم موزعون – جغرافياً – في كل الولايات.. كما أنهم موزعون في كل الطبقات العليا والوسطى والدنيا.. وفي الهند ديانات متعددة 83% من الهنود من الهندوس، و11% مسلمون، و2%مسيحيون، و2% من السيخ، و2% من البوذيين وديانات أخرى.. وفيها 18 لغة رسمية تتعامل بها الدولة ..و67 لغة مستخدمة في المدارس ولها آداب ومؤلفات علمية وصحف.. وفيها 200 لغة مكتوبة لها أبجدية وقواعد وهناك كتب وصحف وإذاعات وأغان بهذه اللغات.. وفي هذه التركيبة الدينية واللغوية والثقافي المتعددة والفريدة استطاعت الهند أن توجد رابطة واحدة تجمع بينها وتجعل منها وطناً واحداً.. ومن الطبيعي أن يفرز مثل المجتمع حالات من الشذوذ، والأفكار الغربية، والتطرف، وأن تظهر مواقف التوتر والحساسية بين أصحاب الأصول العرقية، أو اللغات، أو الديانات المختلفة، والمهم أن الحكومة تستطيع احتواء هذه التوترات قبل أن تؤثر في كيان الدولة. والهند تعاني من التطرف، والجهل والحكومة من جانبها تعمل على تعميق الروح الهندية التي غرسها غاندي بالتسامح، ورفض حل المشاكل بالعنف أو القوة.
والمسلمون في الهند لهم دور في الحياة السياسية والاجتماعية، وقد ظهرت منهم قيادات سياسية رائدة أمثال: مولانا أزاد، والدكتور ذاكر حسين، وهو جد وزير الدولة للشئون الخارجية الحالي سلمان خورشيد، وفخر الدين علي أحمد، وحافظ محمد إبراهيم وغيرهم مئات هم موضع تقدير باعتبارهم شخصيات وطنية تسهم في خدمة بلادها.. ومن المسلمين علماء تفوقوا ولهم مكانة كبيرة على مستوى الهند ومستوى العالم من أمثل: الدكتور حسين ظهير، والدكتور هب باربيا وله إسهاماته العالمية في مجال تكنولوجيا الغذاء والدكتور س.ه، زيدي من أشهر علماء الطب والكيمياء، والدكتور قاسم صديقي عالم المحيطات، والدكتور س.س شفيع العالم المعروف في تخطيط المدن، والدكتور نسيم نصار من المدرسين حالياً في الجراحة..وهكذا.. مما يدل على أن المسلمين جزء لا يتجزأ من نسيج الشعب الهندي، لهم وجو وتأثير ومكانة.. وفي الحكومة الحالية أكثر من وزير مسلم.
ولقد أكدت حكومة الهند في هذه الزيارة رغبتها في تقوية العلاقات مع مصر سياسياً واقتصادياً، خاصة وأن الهند تبدأ مشروعاً جديداً للتنمية وتشجيع الاستثمارات والانفتاح الاقتصادي، وتسعى إلى استعادة الدور السياسي المؤثر لدول العالم الثالث، وتفتح أبوابها للأزهر الشريف ليقود حركة التنوير، ويؤدي رسالته في تعليم المسلمين أصول دينهم وينشر اللغة العربية التي يريدون تعلمها.. ولذلك أشار المسئولون إلى أن الأزهر يحسن صنعاً إذا ضاعف المنح التي يقدمها للمسلمين للدراسة في معاهد وجامعة الأزهر.. وإذا ترجم الكتب الإسلامية الأصلية إلى اللغة الإنجليزية.. وإذا ضاعف عدد الأساتذة الكثيرة المنتشرة في أنحاء الهند.
ولابد أن يكون كل ذلك موضع اعتبار ويلقي استجابة من جانبنا..
ومن حسن الحظ أن جسور التفاهم والصداقة بيننا وبين الهند قائمة وراسخة ولا تحتاج إلى إعادة بناء، ولكنها تحتاج فقط إلى زيادة الحركة عليها.. وذلك لصالحنا كما أنه لصالح الهند.