مستقبل السلام.
في وقت واحد تقريباً – وبغير تنسيق واتفاق – أعلن عيزرا وايزمان رئيس دولة إسرائيل وشيمون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق عزمهما على القيام بزيارة إلى القاهرة لإنقاذ السلام.. وهما بذلك يعبران عن موقفهما في ضرورة إنقاذ السلام من النفق المظلم الذي تصر حكومة الليكود الحالية على أن تدفن فيه كل أحلام المتفائلين الذين عاشوا منذ عام 1977 وحتى اليوم على أمل أن ينتهي الصراع العربي، الإسرائيلي وتبدأ المنطقة عصراً جديداً من الاستقرار والأمن والطمأنينة، ثم انقلب فيه الحلم إلى "كابوس" بعد مواقف الرفض والجمود، والتعنت التي تتمسك بها حكومة إسرائيل الحالية.
وحكومة الليكود تسعى إلى تنفيذ إستراتيجية جديدة تحاول فيها أن تفرض على العرب الاستسلام الكامل دون شروط، وتتجاهل المبررات القانونية والأخلاقية والسياسية، وتتنكر للواقع الذي تعيشه المنطقة والذي يؤكد أن العرب مازالت في أيديهم أوراق وعناصر قوة وعوامل ضغط، وأنهم – تاريخياً – لا يمكن أن يرضخوا لكل هذا الصلف والتعنت.. وأن تزايد الضغط لابد أن يؤدي إلى الانفجار..وقد حدث ذلك بالفعل في الانتفاضة التي بدأت على أيدي الفلسطينيين، والتي يمكن أن تتجدد، وتستمر، وتتسع، ووقتها لن تجدي كل أسلحة إسرائيل في القضاء عليها.. ولا تريد حكومة إسرائيل أن تفهم أن الضمان الوحيد لأمن إسرائيل هو التوصل إلى تسوية تحقق العدل لكل الأطراف بحيث لا يشعر طرف أنه مظلوم، ولا تتراكم في داخله عوامل القهر التي يصعب السيطرة عليها بعد فترة.
وسياسة الحكومة الإسرائيلية – كما تبدو من مناورات رئيس الوزراء – هي كسب الوقت في مباحثات شكلية تفتح باب الجدل حول موضوعات سبق مناقشتها والاتفاق عليها.. وسبق أن وقعت حكومة إسرائيل عليها رسمياً وأصبحت ملتزمة بتنفيذها .. كما وقعت عليها الولايات المتحدة وأصبحت هي الأخرى ملتزمة بضمان تنفيذها.. وفي ظن الحكومة الإسرائيلية أن التكتيك الذي تتبعه يمكن أن يحقق لها هدفها في آخذ كل سيء دون أن تعطي شيئاً.. وذلك بتجميد تنفيذ الاتفاقات وكسب الوقت في مباحثات تعطي انطباعاً بأن الأمور تسير على ما يرام وإنها مستعدة للتفاهم.. إلى أن يصبح الأمر الواقع هو الذي يفرض نفسه على الجميع.. وهذه النظرية خطأ سياسي كبير سيؤدي إلى مخاطر لا يمكن حساب نتائجها الآن.. ولكن سيأتي يوم تكشف فيه هذه الحكومة، أو غيرها، إنها ارتكبت خطأ تاريخياً لا يغتفر، وإنها ضيعت فرصة تاريخية نادرة يصعب تكرارها.. لأن موقفها الحالي سيؤدي حتماً إلى أن يفقد العرب الثقة في جدية ما تعلنه إسرائيل من استعداها للسلام، وسيجد المتشددون العرب فرصتهم للتباهي ببعد نظرهم لأنهم نبهوا تكراراً ومراراً أن الإسرائيليين لا يريدون السلام .. وأنهم يلعبون لعبة السلام كمناورة مرحلية، وحين يجدون فرصة الانقضاض لن يترددوا.. ولا يجد أنصار السلام من العرب – وهم الأغلبية الساحقة – في أيديهم دليلاً من أعمال الحكومة الإسرائيلية يواجهون به هذا المنطق.
ويبدو أن قادة الحكومة الإسرائيلية، وفيهم من تتلمذ على أيدي أساتذة أمريكيين في فترة الخمسينيات والستينيات حين كانت الولايات المتحدة تعيش في أوهام من نظريات غير واقعية عن الشرق الأوسط مثل نظرية "حافة الهاوية" التي كان يطبقها وزير الخارجية جون فوستر دالاس، وكانت تتلخص في أن أمريكا لابد أن تقود كل مواقف صراع إلى آخر نقطة إلى أن تصل بالصراع إلى حافة الهاوية، وعند لحظة الانفجار سيجد الطرف الآخر نفسه مضطراً للتراجع وقبول التنازل عن كل ما كان متمسكاً به.. وقد أثبت التطبيق العملي لهذه النظرية فشلها الذريع ولم تحقق أمريكا من ورائها إلا الكراهية والرغبة في التحدي والانتقام.. من الصغار والكبار.. والصغار إذا ازداد الضغط عليهم لهم وسائلهم في التحدي والانتقام مهما تكن قوة الطرف الآخر.
والنظرية الثانية التي كان مهندسها دالاس أيضاً، فكانت قائمة على أن هناك فراغاً سياسياً وإستراتيجياً في منقطة الشرق الأوسط، لابد أن تملأه قوة ما، والولايات المتحدة هي الأولى بأن تملأ هذا الفراغ.. وقد لقبت أمريكا من المتاعب والخسائر في الستينيات ما جعلها تدرك أن هذه المنطقة ليس فيها فراغ.. ولكن فيها شعوب لها حضارات وثقافات.. ولها إرادة وكرامة.. وتستطيع أن تواجه الجيوش بالصدور العارية وتكبدها خسائر كبيرة .. وتريد الحكومة الإسرائيلية أن تجرب إحياء النظريتين..
والنظرية الثالثة هي نظرية "السوبر مان".. أي وجود قوة فائقة تستطيع إخضاع الجميع ليسلموا لها أنفسهم رهائن ولا يجدوا طريقاً آخر للخلاص.. والسوبرمان هو الذي يقتل ويسرق دون أن يشعر بوخز الضمير.. ما دام قادراً على ذلك.. وعليه أن يظل يقظاً ويستخدم الإرهاب بكل قسوة لتخويف الآخرين وشل إرادتهم..
كل هذه نظريات قديمة أثبتت الأيام سذاجة الفلسفة التي تقوم عليها لأن صعود وسقوط القوى الكبرى ليس مرتبطاً بقدرتهم على اغتصاب حقوق الآخرين، وإقامة سلطانها على البطش والظلم.. ولكن تدوم الدولة إذا أقامت وجودها على المبادئ وألزمت نفسها بالقيم الأخلاقية.
وموقف الجمود الحالي الذي تتمسك به الحكومة الإسرائيلية وراءه هدف خبيث سيؤدي بها إلى مأزق.. فهي تتصور أن قطع كل الطرق أمام العرب يرفض كل شيء سيؤدي بهم إلى الشعور باليأس إلى الاستسلام وإلقاء كل سلاح في أيديهم.. حتى إذا جاءت في آخر لحظة وقدمت بعض التراجع الظاهري، فإن ذلك يبدو تنازلاً كبيراً من جانبها، تستحق أن تحصل في مقابله على تنازل أكبر. وهي تنقل موضوعات الخلافات في كل يوم خطوة إلى الوراء لتحقيق هذا الهدف.. كان الموضوع هو استكمال تنفيذ اتفاق الحكم الذاتي الفلسطيني وإعادة الأرض السورية .. فعاد الحوار إلى الوراء بعد الإجراءات الجديدة، فأصبح الموضوع هو رفع الحصار عن الفلسطينيين وإعطاءهم فرصة العمل والحصول على لقمة العيش.. ثم تراجعت خطوة أخرى فأصبح الموضوع هو إقامة المستوطنات الجديدة.. ثم خطوة أخرى إلى الوراء فأصبح الموضوع هو: هل تغلق الحكومة الإسرائيلية النفق الذي يهدد أساسات المسجد الأقصى أم لا .. بعد أن كان الموضوع: هل تهدم النفق أم يبقى.. وهكذا كل يوم خطوة إلى الوراء ينتقل فيها البحث من موضوع جوهري إلى موضوع ثانوي.. بعد أن كان الموضوع هو كيف تحقق السلام في الشرق الأوسط، ونوجد صيغة للتعاون بين الدول والشعوب، ونزيل آثار الحروب والكراهية، فأصبح الموضوع: كيف نغلق النفق تحت المسجد الأقصى.. وهو موضوع فرعي إذا قيس بالموضوعات الأساسية: الأرض.. والعلاقات.. الخ.
هذه الإستراتيجية التي تطبقها حكومة الليكود الآن تجعل العقلاء في العالم كله يشعرون بالقلق من نتائجها.. ويتحركون .. وهناك قوى داخل إسرائيل ترفض هذه السياسة وترى أنها يمكن أن تبدد كل ما حصلت عليه إسرائيل وحققت به حلمها بأن تكون دولة، وأن يعترف بها العرف، وأن يقبلوا التعامل معها، ويعطوها الأمان.. حكومة إسرائيل تتنكر لكل ذلك، وترفض حتى أن تعطي للعرب الأمان.
الشعور بالخطر هو الذي يدفع وايزمان وبيريز إلى الحضور إلى القاهرة في محاولة لإنقاذ السلام.. والقاهرة جاهزة ومستعدة لإنقاذ السلام إذا كانت حكومة إسرائيل مستعدة ذلك.. وعليها أن تقدم ما يدل إلى ذلك.. أما الحديث عن السلام والدبابات ضد الفلسطينيين والحرم القدسي..فهذا أمر لا تكفي معه المساعي الحميدة وحدها..