تأتي ذكرى انتصار أكتوبر 1973 في وقت نحتاج فيه بشدة إلى العودة إلى هذه الذكرى واستلهام روحها لرؤية أحداث الواقع التي تجري أمامنا بسرعة وقوة، وكأنها تريد أن تطغي على ذكرى النصر.. وكأنها تريد أن تنسينا إحياء هذا النصر والإبقاء على جذوته مشتعلة..
الغرور الإسرائيلي يدفع حكومتها إلى تحدي الحق والمنطق، ويجعلها تطلب المستحيل .. تطلب من العرب أن يعطوها السلام والأمن.. ويعطوها فوق ذلك أرضهم وحقوقهم ومستقبلهم.. ويقفوا أمامها عراة من الحق والقوة..! وهذا فوق طاقة احتمال البشر.
وكتائب "المناضلين" الذين نذروا أنفسهم وسخروا أقلامهم لتشويه حرب أكتوبر والإساءة إلى الزعيم أنور السادات، الذي فجر عوامل النصر وأدار معارك الإعداد والتخطيط السياسي والعسكري، وتحمل مسئولية المبادرة، وشجاعة اتخاذ القرار المصيري الصعب، وبذل جهداً يفوق الخيال لإعداد المسرح السياسي العالمي للتعاطف مع الحق العربي.. وكشف تعنت إسرائيل في رفضها إعادة الأرض لأصحابها.. ثم لإعداد الدولة للحرب، وإعداد الرأي العام، وإعداد العالم العبي كله لهذه المعركة.. هذه الكتائب ازدادت سخفاً في عدائها فوصلت إلى الدرك الأسفل الذي لا يطاق في الإساءة إلى الشعب المصري وقواته المسلحة وزعيمه المفترى عليه..
ومخطط الحرب النفسية القديم عاد بقوة في محاولة شرسة للاستيلاء على عقول الشباب، وإثارة موجة من اليأس والأفكار السلبية المعادية للمجتمع وللتقدم، إلى حد تحويل قطاعات من الشباب من قوة بناء وطاقة تزيد حيوية المجتمع إلى قوة تدمير وهدم وتخريب للمجتمع.. ومن حماة للوطن إلى أعداء له يساعدون من يخطط وينفذ مؤامرة كبرى تبدأ بتسلل الفكر المسموم متنكراً خلف قناع الدين لنشر العداء للمفاهيم والممارسات المعتدلة للإسلام التي كانت وراء انتصار المسلمين وتقدمهم العلمي والحضاري.. والتي ساد بها الإسلام وعبر الحدود وأنشأ أعظم وأكمل إمبراطورية عرفها التاريخ.. ولفرض فكر منحرف غريب.. شكلي .. وسطحي .. يسمح بتكفير المؤمنين.. وقتل المخلصين .. وتقديم الإسلام للعالم على إنه دين همجي ليس إلا صورة من صور قانون الغاب وصراع القوة وفرض الرأي بالإرهاب.. وعدم الاعتراف بحقوق الإنسان ومكانة العقل وأهمية الحوار..
وكتائب أخرى نظمت نفسها بغير مناسبة لإشعال حرب بلا قضية.. حرب كلامية فارغة بالحق والباطل.. والباطل فيها أكثر من الحق بكثير.. معارضون للمعارضة.. وباحثون عن دور ولو بإيقاف قافلة التنمية والبناء.. ولو بتعطيل مسيرة التقدم.. وربما كانوا يتحركون بدافع الحكمة الشيطانية القديمة إذا كنت عاجزاً عن المشاركة في البناء فشارك في الهدم فهذا أسهل ويعطيك قيمة وأهمية قد لا تقلل عن قيمة وأهمية من يبذلون العرق في البناء..
مسائل ومشاكل كثيرة تبدو على سطح الحياة المصرية في هذه الفترة، بينما المجتمع المصري يعمل بكل طاقته لإصلاح اقتصاده، وتغيير نظم التعليم، وتنفيذ خطة غير مسبوقة للتنمية، وتحقيق حلم كان يبدو خيالاً فأصبح واقعاً تراه العيون في أرض سيناء.. بالقضاء على عزلتها وتعمير صحاريها وتحويلها إلى مدن مليئة بالحياة والرخاء..
تأتي ذكرى 6 أكتوبر لتدعونا إلى تأمل الواقع القائم.. قوى البناء وقوى الهدم.. أنصار التقدم وأنصار التخلف .. دعاة النضال من أجل البناء والتغلب على الصعاب ودعاة الهزيمة والاستسلام لليأس المتنكرون للزعماء والقائمون بحملة تشويه منظمة لكل صفحات الفخار في تاريخنا.. والمدافعون عن حرمة التاريخ وإنجازات الزعماء ومكانتهم.. الذين يريدون إعادة المجتمع إلى الوراء تحت دعاوي دينية .. أو سياسية.. أو اقتصادية.. والذين يريدون دفع المجتمع إلى الأمام.. الذين يزرعون الأمل.. والذين يحاولون اقتلاعه وزرع اليأس مكانه .. الذين يضيئون أنوار العقل، والذين يسعون إلى إطفاء هذه الأضواء.. الذين يتمسكون بالروح الوطنية في السياسة والاقتصاد والذين لا يهمهم أمر الوطنية ومستعدون لبيع الوطن بالجملة والقطاعي(!).
مرحلة انتقال هائلة يتجمع فيها أنصار الظلام والتخلف وأنصار النور والتقدم.. وينشأ بينهما صراع حتمي لابد منه لسنا أول من يعاني منه، ولكنه قدر محتوم على كل مجتمع ينتقل من حال إلى حال..
هذه المرحلة حتمية، ولكن لابد أن نفكر في أثر ما يدور فيها من صراع فكري.. واختلافات في الرؤى السياسية والثقافية والحضارية على الأجيال الجديدة من الشباب، وهي تتفتح على تناقضات واختلافات تجعل الاختيار صعباً، والانحياز إلى طائفة من الطائفتين أمراً محفوفاً بالخطر، لابد أن نفكر أن هذا الجيل الجديد لابد أن يشعر بالقلق..لأنه لا يعرف أين الصواب وأين الخطأ.. ولابد أن يقف حائراً ومتردداً لا يستطيع أن يحزم أمره، وينضم إلى فئة دون أخرى.. ولابد أن يملأه الشك لأنه يسمع من يقدم له الرأي على أنه صواب ومن يتهم هذا الرأي ذاته بأنه خطأ وانحراف..
لابد أن نفكر في الشباب ونقدم يداً لمساعدته على تكوين عقله تكويناً سليماً ليقدر على التمييز بعد ذلك معتمداً عليه..لابد أن ننتشله من حالة القلق والتردد والشك لنضعه على أول طريق البحث عن اليقين إلى أن يصل إليه .. ونخلصه من السياسة واللامبالاة وعدم الانتماء، ليشارك في خدمة مجتمعه ويقدم عطاءه للحياة العامة.. لكيلا يحرم المجتمع من أكبر طاقة دافعة للحركة وللأمل.
وإذا أردنا أن نحقق ذلك فلابد أن نعيد التفكير تماماً في عملية إعداد ورعاية الشباب لتقوم على أسس جديدة.. ولتكن البداية تحديد ما نريد ..ماذا نريد من رعاية الشباب .. هل نريد إعداد أبطال رياضيين لكي نفور بميداليات في المسابقات الدولية فيكون لدينا مائة أو ألف بطل رياضي وعشرات الملايين من الشباب، الذين يشكون من الشيخوخة المبكرة نتيجة عدم حصولهم على حقهم من الرعاية الرياضية، وهل نريد ترك الشباب للمصادفة هي التي تدفعه إلى طريق الصواب أو إلى طريق الخطأ أم نقوم نحن بإرشاده ونقدم له تربية دينية وسياسية وفكرية متكاملة.. وهل يكفي أن نقدم هذه التربية لمائة شاب، أم ألف، أم مليون، وكيف..؟
أتصور أنه آن الأوان للبدء في إعداد خطة متكاملة وشاملة، بنفس الأسلوب الدقيق الذي أعدت به حرب أكتوبر، لإنشاء نواة لما يمكن تسميته "شباب أكتوبر"، ولا أقصد أن تكون هذه النواة تكراراً لمنظمة الشباب القديمة فقد انتهى عصرها ومبرر وجودها، ولا أقصد أن تكون إعداداً لكوادر حزب معين، ولكني أقصد أن يكون شباب أكتوبر هو شباب مصر كلها.. لمصر وليس لحزب أو فئة أو شخص.. المهم أن يجد هذا الشباب رعاية حقيقية وليست رعاية شكلية للعرض فقط.. رعاية فيها تكامل بين بناء الجسم والعقل والروح.. فيها الذين والسياسة والثقافة والحضارة.. وفيها ما هو أهم من ذلك: الولاء للوطن والاستعداد للموت من أجل الدفاع عن أرضه وحريته ومبادئه.
وأتمنى لو أننا كرنا ما فعلناه في الإعداد لانتصار أكتوبر من تخطيط جيد، واختيار للقيادات، وإخلاص النوايا، والاستعداد للتضحية.. وأتمنى أكثر من ذلك أن يبدأ إعداد شباب أكتوبر لوجه الله والوطن، وأن يقوم به من هم على استعداد للتضحية والعطاء، لأن مثل هذا العمل لا ينجح إلا إذا قام على إنكار الذات، والتزام كل من يتصدى له بأن يكون أول من يضحى وآخر من يستفيد.
إن بناء الشباب هو القضية الأولى الآن، كما كان بناء الجيش القوي كماً وكيفاً هو القضية الأولى قبل 73، وهو العنصر الحاسم في النصر في المعركة.. معركة هذه الفترة لا تقل أهمية في تحديد المصير عن معركة أكتوبر، والإنسان فيها هو ضمان النصر كما كان صاحب الفضل في نصر أكتوبر.
وما بدأته الحكومة خطوة موفقة دون شك تحتاج إلى خطوات كثيرة، كما تحتاج إلى "غرفة عمليات" متفرغة لهذا العمل الكبير ليكون شغلها الشاغل يومياً وليس على فترات ..
لقد أنجزنا الكثير في البناء في كل المجالات.. وأمامنا مهمة أكبر هي بناء الإنسان.. وشباب مصر هم الأولى بالرعاية لأن كل استثمار في بنائهم هو استثمار لضمان المستقبل كله.