قضية ظاهرها الرحمة..!

عندما اجتمع رجال الأعمال المصريون مع رجال الأعمال الأمريكيين في واشنطن في الشهر الماضي، آثار الأمريكيون بجدية ضرورة توقيع مصر على اتفاقية حماية الملكية الفكرية لكي تحصل على التكنولوجيا الحديثة من أمريكا وغيرها.. وكانت وجهة نظر المصريين أن اتفاقيات الجات تعطي للدول النامية، ومن بينها مصر، مهلة بقيت منها ثماني سنوات، تستطيع خلالها الاستمرار في الحصول على الإنتاج الفكري والاكتشافات دون الحصول على موافقة ودون أن تدفع الثمن، وأن هذه المهلة ضرورية لتوفيق الأوضاع والاستعداد لمرحلة التطبيق الكامل لاتفاقيات الجات مع ما فيها من صعوبات بالنسبة للدول النامية.. لكن الأمريكيين كانت لهم وجهة نظر أخرى مازالوا يطرحونها بقوة وبإصرار حتى بدأ بعض المصريين يستجيبون لها.. ويبدون أن هذه القضية ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب كما يقولون..!.


وهذه القضية ليست من القضايا النظرية أو من القضايا التي تخص الخبراء والقادة وحدهم ولكنها تهم المواطن العادي، لأنها ستؤثر عليه تأثيراً مباشراً، ولو أن مصر وقعت اتفاقية حماية الملكية الفكرية مبكراً وتنازلت عن المهلة الممنوحة لها بالاتفاقية، فإنها بذلك تتطوع بإلزام نفسها بتحمل تكاليف عالية مقابل الاستفادة بالإنتاج الفكري في العالم المتقدم وعلى رأسه أمريكا.. وسيكون عليها أن تدفع عن ترجمة كل كتاب أو مقال.. وأن تدفع إذا أرادت الاستفادة باختراع جديد مهما يكن بسيطاً وسيكون الأثر الأكبر لذلك في قطاع الدواء بالذات.. لأن قطاع الدواء في مصر يمثل أكبر وأهم القطاعات الصناعية.. إنتاجه يصل إلى ثلاثة آلاف مليون جنيه سنوياً.. ومصر من الدول القليلة التي تعتمد أساساً على إنتاجها من الدواء وتصدر منه إلى الأسواق العربية والإفريقية والأسيوية نظراً لما يتمتع به إنتاجها من ثقة ودقة.


وإذا كانت مصانع الأدوية المصرية تنتج 93% من احتياجات السوق المحلية وتصدر للخارج وتبيع الدواء بأسعار تقل كثيراً عن أسعار مثيله في الخارج، فإن ذلك يرجع إلى أن تسعير الدواء يخضع لقرارات لجنة حكومية.. أما الأدوية المستوردة فإن أسعارها أضعاف سعر الدواء المصري الذي يتساوى معها في الجودة.. ولتبرير هذه الزيادة فإن الدعاية تلعب على وتر أن الدواء المستورد أكثر جودة وأن المادة الفعالة فيه أكثر تأثيراً في العلاج إلى غير ذلك من الدعايات التي تستخدم أساليب علمية وأهدافها الحقيقية تجارية..


والقانون المصري يحمي الاختراعات إذا كانت تتعلق بالمادة الفعالة فقط ولا تمتد الحماية إلى المنتج النهائي، وهذا سهل لشركات الأدوية المصرية أن تحصل على المادة الفعالة من الشركات العالمية وتقوم هي بتصنيع الأدوية.. وفي ظل القيود التي تفرضها اتفاقيات الجات تسعى هذه الشركات العالمية الكبرى – بما لديها من أسلحة عابرة للقارات ومؤثرة في الصفوة والجماهير على السواء – أن يمتد الحظر إلى المنتج النهائي على أساس أن الملكية الفكرية تشمل الدواء كله بما فيه من مواد أخرى لا تعتبر اختراعاً ولا تعطيها اتفاقيات الجات الحماية.. وشركات الأدوية تشتري المادة الفعالة من شركات متعددة وتستفيد من المنافسة القائمة بينها وهي في حقيقتها حرب مشتعلة لأن أرباح هذا القطاع أعلى من أي صناعة أخرى في العالم، حتى صناعة الأسلحة (!) والاستفادة من هذه المنافسة تجعل الشركات المصرية تحصل على أرخص سعر من شركات أوربية وآسيوية.. ووفقاً للنظام الحالي – قبل سريان اتفاقية حماية الملكية الفكرية – فإنه بعد مرور عشر سنوات على تسجيل الاختراع تسقط الحماية عنه ويصبح ملكية شائعة، وهذا ما يحدث في العالم كله الآن، بما فيه مصر، ومعظم الأدوية الحالية تستخدم المادة الفعالة التي مرت عشر سنوات على اختراعها أو اكتشافها وسقطت عنها الحماية وأصبحت ملكاً شائعاً للبشرية..


ولكن اتفاقيات الجات جاءت بشرط جديد لصالح الدول الكبرى التي تتم فيها الاختراعات والاكتشافات العلمية.. وهو رفع مدة الحماية من عشر سنوات إلى عشرين سنة .. ومعنى ذلك أن كل مادة تخترعها إحدى الشركات العالمية لا نستطيع أن نحصل عليها إلا بعد أن ندفع لهذه الشركة حقوقها لمدة عشرين عاماً بينما نحن ندفع الآن إذا كان عمر الاختراع أقل من عشر سنوات وبعدها لا ندفع.


واتفاقيات الجات لا تحمي المادة الفعالة فقط ولكنها تحمي المنتج النهائي بكل مكوناته، وتطيل مدة الحماية من عشر سنوات إلى عشرين سنة.


ونظراً لأن الجات ستؤدي إلى تحمل الدول النامية خسائر كثيرة نتيجة امتداد التزامها بدفع حقوق الملكية الفكرية، فقد أعطت فترة سماح عشر سنوات بقيت لنا منها ثماني سنوات، لأن التطبيق الفوري الآن سيؤدي إلى أضعاف صناعة قائمة ناجحة وتحقق أرباحاً ومزايا للعاملين فيها وتوفر العلاج بسعر لا يستطيع المريض المصري أن يدفعه مضاعفاً، خاصة وطبيعة الدواء كسلعة تجعله مفروضاً على المريض.. لا يستطيع الاستغناء عنه.. ولا يستطيع أن يختار من بين البدائل الموجودة للأدوية.. ولكنه مضطر للخضوع لما يكتبه له الطبيب.


وصناعة الدواء المصري لا تستورد من الخارج الآن إلا 7% فقط من المواد المستخدمة والباقي يتم إنتاجه محلياً بكفاءة مشهود لها عالمياً، وعندنا 11 شركة للدواء قطاع عام و11 شركة تابعة لشركة أكديما، و5 شركات مصرية أجنبية مشتركة وشركتان أجنبيتان، وشركات أخرى تنتج أغذية طبيعية، ومستحضرات بيطرية، ومستلزمات طبية.. أي أن هذه الصناعة صرح كبير لابد أن يلقي الرعاية والحماية..


الأمريكيون يريدون منا أن نوقع على اتفاقية الملكية الآن، ونتنازل عن فترة السماح، ويقولون لنا أن ذلك سيجعلنا نكسب مرتين، مرة لأننا سنحصل على حقوق الملكية الفكرية المصرية ونحن لنا أفلام تذاع بتليفزيونات العالم بلا مقابل سيكون من حقنا أن نأخذ المقابل (!) ونكسب مرة أخرى بأن نجعل الشركات الكبرى تعطينا الاختراعات الحديثة جداً وهي مطمئنة إلى أننا سندفع لها المقابل لمدة عشرين عاماً. وليس عشر سنوات، والأمريكيون يعرفون أن كندا كانت شركاتها تنتج الأدوية – مثلنا – رخيصة، ولكنها وقعت اتفاقية الملكية الفكرية وتنازلت عن فترة السماح على أن ذلك عمل حضاري – تحت إلحاق الأمريكيين أيضاً – فكانت النتيجة انتهاء المنافسة بين الشركات، وانفردت بالسوق الشركات الأمريكية والأوروبية العملاقة صاحبة الاختراعات، وارتفعت أسعار الأدوية، وبعد أن كانت الشركات متعددة الجنسيات تسيطر على 10% من صناعة الأدوية أصبحت تسيطر على أكثر من 90%.. وخسرت صناعة الدواء.. وخسر نظام التأمين الصحي الذي كانت تتميز به كندا.


والإغراء الذي يقدمه لنا الأمريكيون لكي نعجل بتوقيع اتفاقية حماية الملكية الفكرية هو أن ذلك سيفتح الباب أمام تدفق الاستثمارات الأجنبية.. والمسئولون عن صناعة الدواء في مصر يقولون إن هذه الصناعة المصرية ليست معزولة وهي منفتحة على الشركات العالمية وبالإضافة إلى ذلك فإن مصر ليست في حاجة إلى استثمارات أجنبية في صناعة الدواء بالذات، فهي صناعة قائمة، وناجحة، وقوية، والطاقات الحالية للمصانع تسمح بمضاعفة الإنتاج، ومن المصلحة أن تأخذ صناعتنا الوطنية الفرصة التي تمنحها لنا اتفاقات الجات ولا تتنازل عنها تحت أي دعوى، فليس من العقل أن نتنازل عن ميزة تقررت منذ البداية لإعطاء فرصة للدول النامية لالتقاط الأنفاس قبل أن تضيق الشركات العالمية الكبرى الخناق عليها..فلماذا نضيق نحن الخناق على أنفسنا..؟ هذه هي القضية التي تشغل المستثمرين والمخططين..


وتحتاج إلى فتح حوار واسع قبل الإقدام على أي خطوة فيها.


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف