شبكة العنكبوت القانونية..!

عندما أرادت مجلة "الايكونومست" البريطانية أن تبين الصعوبات التي يواجهها المستثمرون في مصر اختارت جانباً مهماً هو صعوبة التعاملات القانونية نتيجة تعدد القوانين، فهناك أكثر من ستين ألف تشريع في مصر، والأحكام المتعلقة بتنظيم جانب واحد من جوانب الحياة الاقتصادية مبعثرة في قوانين متعددة، وليست مجتمعة في قانون واحد، فضلاً عن طول إجراءات التقاضي وما يحدث في دهاليز المحاكم مما يجعل القضية تستغرق سنوات طويلة، وكل هذا يؤدي في النهاية إلى خسارة محققة للمستثمر، ولا يستطيع أن يتعايش مع كل هذه التعقيدات..


وقالت.. الايكونومست – أنه ابتداء من الاشتباكات بين سائقي السيارات، وانتهاء بالنزاعات حول ملكية الأراضي فإن الشكاوي تملأ كل الجهات.. وساحات المحاكم مليئة بالمصريين الذين ينتظرون وينتظرون لأنهم وقعوا في براثن نظام قانوني معقد بصورة فظيعة حيث تستغرق أصغر قضية تقليدية عامين على الأقل، أو أكثر ليصدر فيها حكم وتمر القضية خلال ذلك بعدد من القوانين يقارب 60 ألف قانون، تتداخل فيها قوانين عثمانية وفرنسية وإنجليزية بل وسوفيتية الأصل، هذا بالإضافة إلى القرارات الجمهورية، وقوانين الطوارئ التي توالت طوال خمسة عشر عاماً، ويضاف إلى هذه الفوضى أن القضاة مثقلون بالعمل، ويتقاضون رواتب ضئيلة، وتنقل المجلة عن مدير أحد مراكز الدراسات القانونية قوله.. منذ عشر سنوات كنا نرى أنه من غير المعقول أن يقوم قاض بنظر 200 قضية يومياً، أما اليوم فقد أصبح أمراً عادياً أن يجد القاضي أمامه في "الرول" ألف قضية، ولذلك فإن القضاة مضطرون لتأجيل جلسات المرافعة وسماع الشهود ومناقشتهم مرات ومرات قد تصل إلى عدة شهور في كل مرة.


وفي دراسة حديثة عن رجال الأعمال اتضح أن نصفهم تقريباً تورط في دعاوي قضائية دامت لمدة تزيد على عامين، ويطمئن الناس في مصر إلى أن العدالة بطيئة، ولذلك فإن المدنيين يؤجلون سداد ما عليهم من ديون وهم مطمئنون، بل ويشجعون الدائنين على الذهاب إلى المحكمة ..! ونقلت المجلة عن مدير مصري قوله.. إن القانون هنا أشبه بتسهيل ائتماني بدائي للمشروعات وأتعاب المحاماة أقل من الفائدة على القروض..! وحتى أعلى محكمة في البلاد بطيئة أيضاً فقد احتاجت المحكمة الدستورية إلى نحو عشر سنوات لكي تحكم بعدم دستورية ضريبة الاستهلاك، وخلال هذه السنوات كانت الضريبة قد ألغيت، وحل محلها ضريبة بتسمية أخرى هي ضريبة المبيعات.. وكذلك الحال في محكمة النقض..


ومع أن المجلة المعروفة أشارت إلى جهود الحكومة في الإصلاح القانوني والقضائي، إلا إنها لم تكن منصفة ولم تذكر كل الحقيقة.. قالت المجلة أن الحكومة أصدرت قوانين مهمة على طريق الإصلاح خاصة بالمساكن والضرائب، ولكن مازالت القوانين عاجزة أمام الموظف الكسول وغير المنتج، وفي المقابل فإن النظام القضائي ليس بهذا التساهل مع الذين يمثلون تهديداً لأمن الدولة، وتتجاهل الدولة عادة الأحكام التي تصدر ضدها، وتنقل المجلة عن أحد المستشارين السابقين قوله: إن القوانين أصبحت أكثر غموضاً وأقسى في العقوبة وأكثر إرضاء للجانب القوي ومعرضة للحكم بعدم دستوريتها، والجانب التنفيذي يطغي على الجانبين الآخرين، وهكذا..


وهكذا تسهم مجلة كبرى مثل "الايكونومست" المفروض إنها لها مصداقية واسعة بين رجال المال والأعمال والسياسة في تشويه صورة النظام القانوني والقضائي في مصر بهدف تخويف المستثمرين، في إطار حملة واسعة تشارك فيها أطراف عدية، وتستخدم وسائل إعلام مختلفة، لكي توصل رسالة ملخصها أن الاستثمار في مصر مغامرة غير مأمونة العواقب.


ويأتي توقيت هذه الحملة بالضبط مواكباً للنشاط المصري في جذب الاستثمارات وتقديم الامتيازات والتسهيلات التي أسهم في إيجاد.. مناخ الاستثمار، خاصة أن هذه العملية يقودها الرئيس مبارك بنفسه ويتابع ما تفعله الحكومة فيها يوماً بيوم.


تأتي هذه الحملة المنظمة لتعطي انطباعات وآثاراً نفسية سلبية في الوقت الذي بدأت فيها اتفاقات الشراكة مع أمريكا وأوروبا مع الصناديق العربية تتخذ مسارات جديدة أكثر جدية وسرعة.


وليس صعباً أن تجيب عن السؤال التقليدي: من وراء هذه الحملة ولمصلحة من..؟ فالإجابة بمعروفة ولابد أن ننتظر ما هو أكثر من ذلك.


ولكن أهم من ذلك أن نسأل: لماذا لا نتصدى لهذه الحملات..؟ أقصد لماذا لا تكون هناك سياسة ثابتة تشمل استخدام وسائل الإعلام – الأوروبية والأمريكية وليست المصرية – لمخاطبة المستثمرين الأجانب باللغة التي يفهمونها.


وتناقش معهم بصراحة – ودون مجاملة – كل مخاوفهم وملاحظاتهم، ولا تكتفي بالطريقة الدفاعية التقليدية التي تتبعها، وهي أن كل شيء عندنا على ما يرام، ولكن يكفي أن يدركوا أن أموراً كثيرة تم إصلاحها.. وأن الرغبة في الإصلاح قائمة، وأن أموراً كثيرة سيتم إصلاحها مع الوقت..


لماذا لا نوصل بكل أسلوب ممكن للمستثمرين حقائق ما أنجزناه حتى الآن وهو ليس قليلاً.. وليس التليفزيون هو الأسلوب الأمثل لمخاطبة وإقناع رجال الأعمال والمال، وإن كان مؤثراً في العامة، والأجدى منه الاتصالات وتقديم نماذج لأعمال ناجحة لم تصادف مشكلات أو استطاعت حل مشكلاتها بالأساليب نفسها التي يتم بها ذلك في الدول المتقدمة.


ثم لماذا لم تصل إلى سفاراتنا، ومؤسسا التمويل والاستثمارات والبنوك الكبرى في العالم المعلومات الكافية عن القوانين الجديدة التي صدرت لتسهيل التقاضي وحسم المنازعات الخاصة بالاستثمار بعيداً عن المحاكم – عن طريق التحكيم داخل أو خارج مصر – واستمرار العمل في المحاكم صيفاً وزيادة عدد القضاة وتحسين أحوالهم.. وتشكيل لجنة عليا للتشريع لتحقيق الهدف الذي يطالبنا به الجميع، وهو توحيد التشريعات التي تحكم كل جانب من جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وإزالة "غابة" القوانين التي يتحدثون عنها، أو شبكة العنكبوت القانونية" التي تقتل الاستثمار والمستثمرين.


إن الحكومة تفعل الكثير، بل أكثر مما يفعل غيرنا، لجذب الاستثمار، ولكن غيرنا أكثر براعة في استخدام أساليب العلاقات العامة، وأدوات التأثير، وتوصيل المعلومات في الوقت المناسب للمواقع المهمة ذات التأثير في الإعلام أو في اتخاذ القرار بالنسبة للاستثمار.


وقد يقال إن الحكومة تحب أن تعمل في صمت.. ونقول إن هذا الكلام لا يصلح إلا في حالة واحدة، هو أن تكون حكومة لدولة وحيدة في العالم لا يجاورها، ولا ينافسها ولا يعاديها أحد..


ولنتعلم من غيرنا.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف