نحن واليابان ...
أعادت زيارة وزير خارجية اليابان لمصر الحوار حول أهمية زيادة الجسور بيننا وبين اليابان، رغم التحفظ، وبط الحركة، من الجانب الياباني، لأن ما يربطنا باليابان ثقافياً وسيكولوجياً يمثل قاعدة لعلاقات خالية من العقد والمخاوف، ومليئة باحتمالات النمو لصالح البلدين.
فاليابان بالنسبة لنا نموذج عظيم لشعب وصل من التماسك وقوة الإرادة والدأب على العمل والتضحية من أجل تقدم وطنه، حتى قفز خلال نصف قرن فقط من نقطة الصفر إلى أن بلغ قمة التقدم الصناعي والتكنولوجي، وأصبح اقتصاد اليابان الآن هو الثاني في العالم..
ولاشك أننا نحتاج إلى أن نتعلم من اليابان الكثير لأنها الأقرب إلينا عقلياً وروحياً.. وبيننا قيم اجتماعية وحضارية وتقاليد مشتركة، ويمكن أن نتفاهم بسهولة خاصة أن اليابان لا تسعى إلى إخضاع العالم إلى الالتزام بأسلوب الحياة اليابانية، وليس من بين أهدافها القضاء على الروح القومية، أو تعدد الثقافات، أو على القيم الروحية التي تختلف مع ما هو سائد عندها.. اليابان عملاق اقتصادي .. نعم.. وتسعى إلى فتح أسواق أكثر والسيطرة الاقتصاد العالمي بقدر ما تستطيع ..نعم. وهي تريد دائماً أن تأخذ أكثر مما تعطي..نعم.
والسوق المصرية .. العربية بالنسبة لها أهمية خاصة، وبخاصة البترول ..نعم. ولكنها مع ذلك كله ليست لديها خطة سياسية.. سرية أو علنية.. للهيمنة على العالم العربي ليدور في الفلك الياباني. ولا تقدم شروطاً تفرضها على أصدقائها مقابل الصداقة.
واليابان بالنسبة لنا هي النموذج الرائع الذي نبحث عنه.. الذي استطاع أن يصل إلى قمة التقدم العلمي والتكنولوجي، ونجح في إنجاز أكبر ثورة في التعليم حولت اليابانيين من صيادي أسماك وزراع أرز إلى أعظم العلماء والمبتكرين في التكنولوجيا الفائقة التقدم، وظلت – في الوقت نفسه – محتفظة بطابعها القومي، وبشخصيتها، وبكل عاداتها وقيمها الأسرية والاجتماعية والدينية، دون أن ينتابها شعور بالنقص، أو رغبة في أن تتنازل عن عقلها وشخصيتها لتستبدل بها عقلاً أو شخصية أخرى.. وإذا ظهر في اليابان بضعة آلاف من اليابانيين يقلدون الأمريكيين، فمازال هناك مئات الملايين محتفظون بالطابع الياباني بنسبة مائة في المائة.. فاليابان هي الرد النموذجي لكل من يطالبنا باسم "العالمية" بأن نخلع رداء المصرية والعربية لنرتدي جوهر ومظاهر حضارة أخرى ليست حضارتنا، ولم نمر بمراحل تطورها، ولا هي عاشت تجاربنا، لمجرد أن ندخل في عصر "العالمية" التي سيصبح فيه العالم كله كياناً واحداً..
وإن كانت مشكلتنا مع اليابان إنها لم تبلور إستراتيجيتها بالنسبة للتعامل السياسي معنا، وإن كان إستراتيجيتها الاقتصادية جاهزة دائماً، ومنذ وقت طويل، لغزو الأسواق العربية، واكتساب ثقة المستهلك العربي، والحفاظ على إمدادات البترول العربي الذي يتوقف نموها وتقدمها عليه.. أما ما عدا ذلك فلا يزال في طور التشكيل..
وعلى المدى القريب لن يكون أمام اليابان مجال لاستمرار سياسة العزلة السياسية والهجوم الاقتصادي، ولابد أن تلعب دوراً رئيسياً في العالم، وكما يقال فإن اليابانيين لن يقنعوا بدور عالمي يقتصرون فيه على صناعة راديوهات ترانزستور أحسن وأرخص من غيرهم، وماكينات خياطة وسيارات مغربة رخيصة، لن تستمر اليابان قوة اقتصادية كبيرة، ووزناً سياسياً عالمياً متوسطاً، فإن القوة الاقتصادية التي وصلت إليها ستفرض عليها دوراً سياسياً خارجياً يتلاءم مع هذه القوة الاقتصادية.
كذلك لن تستمر القاعدة التي يقال أن اليابان وضعتها لنفسها، وهي أن اقتصادها تم بناؤه لا لمساعدة الآخرين ولكن لمساعدة اليابان فقط، ويضربون لذلك مثلاً بقلة المعونات الخارجية التي تقدمها اليابان، وكانت هذه نقطة خلاف مع الولايات المتحدة التي كانت ترى أن مقتضيات الأمن القومي لا تشمل ما ينفق على السلاح والدفاع فقط، ولكنها تشمل المعونات الخارجية أيضاً، وهذه هي فلسفة الولايات المتحدة، فالمعونات الخارجية بالنسبة لها جزء لا يتجزأ من إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، وضمان لاستمرار قوة النفوذ والتأثير الأمريكي في مساحة واسعة من العالم، وكان الأمريكيون يقولون: "أن المشكلة مع اليابانيين عندما يقدمون معونة أجنبية هي أنهم يتصرفون مثل شبه الموصلات يأخذون كل شيء، ولا يعطون أي شيء في المقابل، ولذلك يدعو الأمريكيون اليابان دائماً إلى استخدام المعونات والاستثمارات ليس لتشجيع مصالحها الاقتصادية الضيقة فقط، بل أيضاً لتحقيق مصالح أمنها القومي الأوسع، ويقول الأمريكيون لليابانيين دائماً "أنه لا يمكن تأكيد شرعية أي برنامج معونة إذا كان يخدم مصالح الدولة المانحة فقط، لأنها لن تكون مؤثرة إلا إذا خدمت أيضاً مصالح الدولة المتلقية للمعونة، ولذلك فإن الإدارة الأمريكية منذ إدارة نيكسون تقدم النصيحة دائماً لليابان لتكون المانح الرئيسي للمعونة للدول العربية التي تسعى لتحقيق سلام مع إسرائيل.. فالولايات المتحدة لا يمكنها الاستغناء عن بترول الخليج، وكذلك اليابان، ومع ذلك شاركت اليابان في حرب الخليج بصعوبة بتقديم قوات بحرية غير قتالية وأفراد خدمات طبية، وكان الرئيس الأمريكي نيكسون يقول حتى آخر أيامه: لن تكسب اليابان مقعداً على مائدة القوى القائدة للعالم ما لم تجد طريقاً لاستخدام قوتها الاقتصادية لتحقيق تأثير سياسي، وأن تدعيم مسيرة السلام العربي- الإسرائيلي فرصة مثالية.. وكان أيضاً يشكو من أن اليابان ترفض اللعب طبقاً للقواعد وتلعب طبقاً لقواعدها هي.
وإن كانت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة واليابان من ناحية والاختلاف الثقافي الجوهري من ناحية أخرى، يوجدان فاصلاً وحساسية شديدة بينهما، فليس لهؤلاء العاملين وجود بالنسبة لعلاقاتنا مع اليابان، فلسنا في منافسة معها على الأسواق بل لسنا في منافسة معها في أي ميدان على الإطلاق.. وكل ما نطلبه منها هو الصداقة، والتعاون المتبادل، لنستفيد من تجربتها في التنمية وصناعة التقدم والتعليم، ونأخذ منها التكنولوجيا المتوسطة وليست المتقدمة ونقترب من أسرارها العلمية، ونفتح أبواب الترجمة للثقافة والعلوم من اللغة اليابانية إلى العربية، والعكس، ولدينا الكثير مما نقدمه في المقابل: البترول والسوق.
وإذا كان مبنى دار الأوبرا شاهداً على صداقة اليابان نذكره لها بالامتنان فإننا ننتظر منها مع عتاب الأصدقاء أن تزيد استثماراتها في المشروعات الإنتاجية، وأن تبدأ تنفيذ الكوبري الذي استغرق الحديث عنه ما يقرب من عشر سنوات حتى الآن.. باختصار إن كلمات الحب الياباني لنا أكثر مما يجب .. والعمل أقل بكثير مما ننتظر.. ولعل زيارة الوزير الياباني تكون خطوة إلى الإمام وبادرة خير!.