في اجتماعات رجال الأعمال والمستثمرين الأمريكيين والعرب، التي عقدت في واشنطن أثناء زيارة الرئيس مبارك للولايات المتحدة، كرر الأمريكيون الشكوى من بطء إجراءات التقاضي وكثرة القوانين في مصر، وأشار بعضهم إلى ما نشرته مجلة "الأيكونومست" البريطانية المهتمة بالشئون الاقتصادية عن الأوضاع التشريعية في مصر في موضوع بعنوان "غاية القوانين" وطلب الأمريكيون أن تسرع الحكومة في اتخاذ إجراءات تكفي ليطمئن المستثمر الأجنبي إلى أنه إذا اضطر إلى اللجوء إلى القضاء المصري في منازعة تجارية، وهذا أمر طبيعي وارد دائماً، فإنه لن يقضي سنوات في المحاكم ويتعامل مع عشرات الآلاف من القوانين التي يستحيل الإحاطة بها.. وأمام إصرار الجانب الأمريكي تضمن البيان الختامي لاجتماعات المجلس الرئاسي للشراكة المصرية الأمريكية فقرة تطالب الحكومة المصرية بسرعة إنجاز وعودها في هذا المجال الذي يتوقف عليه نمو أو تراجع الاستثمار الأجنبي.
ويبدو أن الصورة لم تكن واضحة في هذه الاجتماعات ولم يستطع المستثمرون المصريون أن يشرحوا للأمريكيين الخطوات التي تمت والتي تساعد على توفير الطمأنينة للمستثمر بما يكفي..
ويبدو أن الصورة لم تكن واضحة في هذه الاجتماعات ولم يستطع المستثمرون المصريون أن يشرحوا للأمريكيين الخطوات التي تمت والتي تساعد على توفير الطمأنينة للمستثمر بما يكفي.
فلقد بدأ العمل بقانون التحكيم التجاري والمدني الجديد، وهو قانون متقدم جداً، يساير أحدث الاتجاهات واستغرق أعداده ثماني سنوات، استعان فيها المشرع المصري باتفاقية الأمم المتحدة للتحكيم التجاري، وقانون التجارة الموحد المعتمد دولياً، وهذا القانون وحده كاف لتهيئة مناخ اقتصادي مستقر، ويحقق سرعة الفصل في المنازعات التجارية ذات الطابع الدولي أو المحلي، ويعطي الطمأنينة للمستثمرين الذين يتعاملون مع أحكام هذا القانون ذاته في بلادهم وبذلك لا تتأثر مشروعاتهم باختلاف النظام القضائي الذي يحكم استثماراتهم.
وقانون التحكيم الجديد الذي بدأ تطبيقه منذ أكثر من عام ينظم الفصل في المنازعات بغير طريق المحاكم، عن طريق التحكيم التجاري، في أي علاقة قانونية ذات طابع اقتصادي، سواء كانت بعقود أو بغير عقود، وتشمل على سبيل المثال توريد السلع، أو الخدمات، والوكالات التجارية، وعقود التشييد، والخبرة الهندسية أو الفنية، ومنح التراخيص الصناعية والسياحية، ونقل التكنولوجيا، والاستثمار، وعمليات البنوك، والتأمين، والنقل والتنقيب واستخراج البترول وغيره، وتوريد الطاقة، ومد أنابيب الغاز والنفط، وشق الطرق، والأنفاق، واستصلاح الأراضي الزراعية، وحماية البيئة، وإنشاء المفاعلات النووية..فماذا يريد المستثمرون الأمريكيون أكثر من ذلك؟..
ماذا يريدون أكثر من قانون يتفق مع القوانين الأمريكية والأوروبية المماثلة، يفتح أمامهم الباب لحل الخلافات التي تنشأ بغير طريق القضاء العادي، ولكن عن طريق اختيار هيئة تحكيم فيها من يمثل كل طرف من أطراف النزاع وفيها عضو محايد للترجيح يتم اختياره من جدول المحكمين الخبراء المتخصصين ذوي الكفاءة العالية، وأكثر من ذلك يعطي هذا القانون للمستثمرين في بعض الأحوال الحق في النص في العقود على أن يقوم بالتحكيم مركز أو منظمة للتحكيم في الخارج أو في مصر.. وقد استفادت من هذا القانون كل شركات البترول العالمية ومنها شركات أمريكية بالنص في عقود البحث والتنقيب والاستغلال على إحالة كل نزاع ينشأ في التطبيق إلى هيئة تحكيم ينص عليها كل عقد، وهذا الباب المفتوح أمام كل المستثمرين في العالم أو غير الأسلوب المتبع في الولايات المتحدة ذاتها وكل دول أوروبا.
ومع أن طريق التحكيم أسهل وأسرع ولا يحتاج إلى إجراءات معقدة، ويبعد المستثمرين عن غاية القوانين المصرية وغاية موظفي المحاكم التي يتحدثون عنها كثيراً، فإن هناك خطوات كثيرة اتخذتها الحكومة المصرية كان المفروض أن يكونوا على علم بها، ولكن يبدو أن الإعلام بها من جانبنا مقصر وغير كاف..فقد صدرت قوانين في السنوات الأخيرة تحقق للمستثمرين ما يطالبون به من تبسيط إجراءات التقاضي وسرعة تحقيق العدالة، مثل قانون التجارة البحري، وتعديل قانون المرافعات، وهناك قانون جديد للتجارة تم إعدادها وينتظر إقراره في مجلس الشعب في الشهور القادمة..
وهناك قرار جمهوري بإنشاء لجنة عليا للتشريع بدأت في مراجعة وتطوير تشريعات قطاعات الدولة لكي تحقق التكامل والتيسير ووضع الإطار القانوني لتشجيع الاستثمار. وأكثر من ذلك عقدت وزارة العدل المصرية اجتماعات ومؤتمرات بالاشتراك مع الإدارة الأمريكية لدراسة تطوير إجراءات التقاضي واقتراح بدائل تغني عن الإجراءات التقليدية المعتادة، وقدم الجانب الأمريكي بعض النظم المطبقة في أمريكا مثل التسوية القضائية، والمفاوضة، والصلح، وإدارة الدعوى، والتحكيم، واقترحت وزارة العدل المصرية فكرة نظام النيابة المدنية كأحد البدائل لحل المنازعات باعتباره نابعاً من النظام القضائي المصري ويحقق ذات الأهداف التي تطبقها النظم الأمريكية.
والقضاة المصريون الآن يعملون بفلسفة جديدة.. لم تعد القضايا تستغرق عشرات السنين..والعام القضائي لم يعد ثمانية أشهر، ولم يعد عدد القضاة قليلاً..كل ذلك تغير: لم تعد هناك قضية تستغرق أكثر من سنة أو سنتين.. وأصبح العام القضائي متصلاً لا يعرف العطلة القضائية التقليدية القديمة.. والاهتمام بإعداد القضاة يشمل الآن برامج لدراسة النظم القانونية والقضائية في الدول الأخرى، وهناك اتفاقية بين مصر وهيئة المعونة الأمريكية لإيفاد عدد من القضاة والمستشارين إلى الولايات المتحدة لدراسة نظامها القضائي وأسلوب العمل في محاكمها.. وهناك قضاة ومستشارون مصريون أوفدوا إلى فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وهولندا لنفس الغرض.. مع وجود محاكم متخصصة في بعض المنازعات المالية والبحرية والتجارية وأعمال البنوك.. وتم تكوين فريق عمل من القضاة والمستشارين المصريين أقاموا ندوات مع فريق من القضاة وكبار المحامين الأمريكيين، وعقدت هذه الندوات في القاهرة وسان فرانسيسكو للتوصل إلى أفضل الوسائل لإنجاز قضايا المستثمرين بالسرعة المناسبة.
هذه الوسائل، وغيرها، تدل على أن الحكومة المصرية من جانبها لم تقصر في العمل على تطوير التشريعات والمحاكم والقضاة، وإعداد النظام القانوني والقضائي المصري ليتفق مع مرحلة الانطلاق في الاستثمار وإقامة المشروعات المشتركة بما يحقق للطرف الأجنبي كل الضمانات القانونية والإجرائية..
لكن هذه الصورة لم تكن واضحة في اجتماعات المستثمرين العرب والأمريكيين.. وأعتقد أن واجب الحكومة، وهي تعمل الكثير، أن تدرك أن العمل الكبير لا يكفي وحده، إذا لم يدرك الآخرون حقيقة ما تم عمله، وما يجري العمل فيه..ولابد أن نعترف بأن الحكومة لم تقم بدورها بالتعريف بمناخ الاستثمار في جوانبه التشريعية والقضائية، وإلا لما أصر الأمريكيون على الإشارة إليها في البيان الختامي..