أهمية الوعي بالتاريخ

مع ذكرى قيام ثورة 23 يوليو يتجدد الشعور بأن هناك تهديداً خطيراً للعقل العربي.. هناك محاولات مستمرة لتزييف الوعي.. وتزييف الواقع.. وإفراغ الشخصية من مقومات القوة والاعتزاز بالذات التي غرستها هذه الثورة.


ولا أظن أنه من قبيل المصادفة أن يقوم مشروع علمي كبير في إسرائيل تتبناه مراكز بحوث وجامعات لإثبات أن اليهود هم الذين أنشأوا مدينة القدس منذ ثلاث آلاف عام وبالتالي هم أصحاب الحق فيها، ويتجهون إلى الدعوة لإقامة احتفال عالمي بهذه المناسبة.. لكي يطغي هذا التزوير الذي يبدو في ثوب البحث العلمي والأكاديمي على حقائق التاريخ الثابتة والمؤكدة وهي أن القدس عربية.. إسلامية.. ولا أظن أنه من قبيل المصادفة أيضاً أن تظهر أبحاث ومراجع علمية لإثبات أن الحضارة الفرعونية بكل معجزاتها في الطب والتشريح والرياضيات والكيمياء والهندسة وعلم الفلك.. كانت في الأصل يهودية! ويبدأ التزييف بهدم الأساس التاريخي وإثارة الشكوك في أن هذه الحضارة من إنتاج المصريين.. بالقول بأن بناة الأهرام هم كائنات هبطت من الفضاء.. أو بأنهم كانوا من أبناء شعوب أخرى غير المصريين.. وأخيراً بالقول بأن بني إسرائيل هم الذين أقاموا الأهرامات والحضارة الفرعونية...!


قد تبدو هذه الادعاءات أقرب إلى النكت التي تقال للتسلية وإثارة الدهشة، ولكن خطورتها تأتي مع تكرارها، والإصرار عليها، ثم محاولة تأكيدها بأدلة علمية وتاريخية كاذبة ومزورة، وأخيراً تنعقد مؤتمرات عالمية لتبحث هذه الخرافات على إنها حقائق.....وتضيع الحقيقة التاريخية وسط طوفان الأكاذيب.


نفس الشيء يحدث بالنسبة لثورة يوليو...بدأ الأمر بالتشكيك في نوايا قادة الثورة.. ثم التشكيك في الذمم...ثم التشكيك في جدوى الإنجازات التي حققتها الثورة...حين يقال إن الثورة طردت الاستعمار يقول مؤرخ الخداع إن الاستعمار كان سيطرد نفسه ويخرج من تلقاء ذاته فلا فضل للثورة في ذلك...وإذا قيل أن الثورة أممت قناة السويس قالوا أن ذلك ليس انتصاراً بل هزيمة لأنه كان دعوة للعدوان الثلاثي على مصر.. وإذا قيل أن الثورة قضت على الإقطاع قالوا أن ذلك أدى إلى تفتيت ملكية الأرض الزراعية بعد أن كانت آلاف الأفدنة مجتمعة في يد مالك واحد ما يسمح بالإنتاج الكبير.. وإذا قيل المصانع قالوا أنها كانت ستقوم بدون ثورة.. وإذا قيل أن الثورة وضعت لأول مرة مبدأ التخطيط الاقتصادي والاجتماعي ونفذت خطة خمسية قالوا إنها كلها كانت خططاً فاشلة..مع تجاهل آلاف المدارس والوحدات الصحية والأرض المستصلحة و...و...الخ.


أي أن الاتجاه إلى تشويه التاريخ في عيون الأجيال الجديدة من المصريين عملية منظمة يقوم بها كتاب وأساتذة في بعض الأحيان من المصريين والأجانب.. أو من المصريين الذين يأخذون عن الأجانب .. ويهاجمون ويهدمون كل ما يمكن أن يكون من مفاخر المصريين حتى الزعماء لم يسلموا في كل العصور.. عرابي كان خائناً.. سعد زغلول كان سكيراً وغارقاً في القمار ومتواطئاً مع الاستعمار.. مصطفى كامل كان عميلاً للإمبراطورية العثمانية.. محمد فريد كان عميل مخابرات أجنبية.. عبد الناصر كان عميلاً أمريكياً وثورته كانت صناعة أمريكية..!.


كلام يبدو لأي عاقل نوعاً من الخبل العقلي واختلال القدرة على التفكير والحكم، ولكنه إذا تكرر بلهجة الثقة، وعلى ألسنة وأقلام من يفترض فيهم حسن الخلق والحياد، وإذا ظل يتردد في آذان أجيال جديدة لا تعرف الحقيقة، ولا تستطيع أن تميز بين الصدق والكذب، وليس لديها أدوات التحقق والتحقيق، فمن الممكن أن تنشأ هذه الأجيال على تصديق هذه الأكاذيب البالغة الخطورة.


ولا يكفي أن نردد أن مصر أم الحضارة، وأم التاريخ الإنساني، كما لا يكفي أن يستنكر العقلاء والمخلصون محاولات تزييف الوعي وتشويه التاريخ ويؤكدوا بين حين وآخر أن التاريخ هو ضمير الأمة وذاكرتها، وأنه المكون الأساسي للشخصية القومية وبدونه لا يمكن أن تتبلور الرؤية المستقبلية، لأنه إذا لم يتصل الطريق من الماضي إلى الحاضر فإنه لن يمتد مستقيماً إلى المستقبل، ومن الممكن أن يضل المصريون الطريق إلى مستقبلهم ماداموا قد ضلوا عن ماضيهم..


وهذه القضية حين أثيرت في المجالس القومية المتخصصة مؤخراً كان هناك اتفاق على أن الوعي التاريخي بين المصريين يكاد يكون منعدماً، وأن الاهتمام بالثقافة التاريخية يكاد يكون منعدماً، وأن النوايا الخبيثة وراء حملة لغرس الاستهانة بالمواقف والشخصيات ذات الأهمية في تاريخ مصر.. كما أن بعض الكتاب يتناولون الموضوعات التاريخية بسطحية ويتعمدون التعتيم على ما في تاريخنا من إيجابيات ويفسرون الأحداث التاريخية الأساسية تفسيراً خاطئاً، ويحرصون على نقل ما يكتبه الأجانب في محاولتهم لتشويه كل ما هو مصري وعربي وإسلامي.. ولن يكون لذلك من تأثير في النهاية إلا تشويه ثقافة الأجيال الجديدة وتعميق الشعور بالإحباط القومي وخلخلة الانتماء الوطني..


وكان المنطقي أن تركز وزارة التعليم في مناهجها على تدريس التاريخ في كل مراحل التعليم، وبخاصة في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، في كل السنوات، وجعله مادة إجبارية، ولكن الذي حدث هو إلغاء تدريس التاريخ في السنة الثانية في نظام الثانوية الجديدة، واعتبار مادة التاريخ مادة اختيارية في السنة الثالثة، وهكذا أصبح التاريخ مادة هامشية في بلد التاريخ، كما قال خبراء المجلس القومي للثقافة، وأشاروا إلى أن جهد وزراتي الثقافة والإعلام في نشر الثقافة التاريخية وتنمية الوعي بالتاريخ المصري والعربي مازال محدوداً، وعلى حد تعبيرهم "أصبحت الكثير من الأفلام والروايات التاريخية [سواء التاريخ القديم أو المعاصر] مادة "استرزاق" ..تشوه تاريخنا وتحولت إلى سلاح مدمر للشباب وخاصة محدودي الثقافة التاريخية منهم.


إذا كانت هذه هي النتيجة التي وصل إليها خبراء المجالس القومية المتخصصة– وهم صفوة المفكرين والأساتذة – فقد أصبح الواجب أن نضع توصياتهم موضع الاهتمام.. فهم يطالبون بوضع خطة للتثقيف التاريخي تخاطب كل شرائح المجتمع وتوجه إلى مختلف قطاعات الشعب كل من الزاوية التي تعنيه وتؤثر عليه تأثيراً مباشراً، وباستخدام وسائل الثقافة والإعلام والفنون.. ويطالبون أيضاً بالاهتمام بكتب ومجلات وأفلام الأطفال والتلاميذ وبالقصص المستمدة من تراثنا.. وتطوير مناهج تدريس التاريخ وجعله مادة إجبارية في كل سنوات الدراسة .. والاهتمام بأقسام التاريخ في الجامعات وطبع الرسائل العلمية التي تقدم إليها ..وتقديم مساعدات للباحثين الذين يقومون بجمع وتسجيل الوثائق التاريخية ونشرها.. ومناشدة ضمير الكتاب والباحثين بتقديم التاريخ بموضوعية وحياد، وتنقية هذا التاريخ المفترى عليه من الأكاذيب والتشويه والتحريف والتصدي لما تحمله بعض الكتب الأجنبية من افتراءات على تاريخنا وزعمائنا.


هذه الدعوة من صفوة العقلاء والمفكرين في مصر يجب أن تجد آذاناً صاغية، ولا تذهب صرخة في واد.. ولابد أن ننتبه إلى أن كثيراً من السلبيات التي طرت على الشخصية المصرية من اهتزاز الانتماء والولاء ترجع إلى تأثير هذه الحملات المنظمة التي استمرت سنوات طويلة لاقتلاع جذور الثقة واليقين بالوطن وزعمائه، والنظر إلى كل شيء بعين الشك وعدم الاحترام.


ليس جديداً أن نتحدث عن ضرورة الاهتمام بتقديم تاريخنا في صورته الحقيقية للأجيال الجديدة من المصريين.. لأن تواصل الأجيال لا يتحقق إلا بمعرفة وتقدير ما أنجزه السابقون والاعتزاز بهم...


أريد أن أقول أن هناك مؤامرة خطيرة على التاريخ المصري ستظهر نتائجها المدمرة بعد سنوات إذا استمرت.


وواجبنا أن ننتبه.


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف