حوار لم يكتمل...!

عندما دعا الرئيس حسني مبارك إلى الحوار الوطني منذ عامين تقريباً كان الهدف أن تلتقي كل العقول والأفكار في ساحة مفتوحة الأفق، لطرح كل قضايا المجتمع المصري، من كل الزوايا، إلى أن يتبلور رأي عام بين الصفوة المصرية وقيادات العمل السياسي والتنفيذي حول صورة المستقبل..كيف ستكون مصر.. أو ماذا نريد لها أن تكون، وما هي الوسائل العملية للوصول إلى هذا الهدف.


ومثل هذا الحوار لا يمكن أن يحقق هدفه كاملاً من أول جولة مهما يكن الاستعداد لها كاملاً. أولاً: لأن هناك متغيرات قد تدعو إلى تغيير الحسابات وإعادة ترتيب الأولويات وثانياً: لأن هناك عناصر جديدة من الشباب نضجت ومن حقها أن تجد الفرصة في المشاركة بالفكر وتحمل المسئولية، وهذه العناصر لابد أن تجد ساحة حوار تشارك من خلالها في الهم العام وتستنير باللقاء مع من لديهم الحقائق والخبرة وثالثاً: لأن الحوار الذي جرى منذ عامين لم تسفر عنه آلية من أي نوع للمتابعة..فالتوصيات والأفكار التي طرحت فيه لم تجد جهة تحركها وتبعث فيها الحياة.


وبالإضافة إلى ذلك فإن ظروف المجتمع المصري الحالية تجعله محتاجاً إلى استمرار الحوار، ليظل المجتمع في حالة يقظة وانتباه وانشغال بالهموم والمخاطر والمشاكل القائمة والمحتملة، ويبحث كل يوم عن تحسين وسائل العمل العام واستكمال النقص فيه.


والحوار الذي نحتاجه الآن هو ما كان يفكر فيه الرئيس مبارك منذ عام 1982 حين فرغ الرئيس من المؤتمر الاقتصادي الذي جمع كل رجال الفكر والعمل الاقتصادي في مصر، ورأى أنه لابد أن يتبعه مؤتمر اجتماعي لتحديد أهداف عامة يتجه إليها المجتمع واتقاء المشكلات الاجتماعية الجديدة، وفي ذلك الوقت استدعى الرئيس الدكتور أحمد خليفة رئيس مركز البحوث الاجتماعية وطلب إليه الإعداد لهذا الحوار، وكما يقول الدكتور خليفة فإن الرئيس كان يرى أن المقصود ليس مؤتمراً علمياً بمعنى الكلمة، وإن كان ضرورياً أن يجري العمل فيه بأسلوب علمي، وإنما هي جلسة عائلية بين من يملكون مصر.. فهي جمعيتهم العمومية، للقضاء على أي مبررات تغذي المشاعر السلبية بين الناس، وكانت رؤية الرئيس أن الإنسان إذا رغب في البناء فسوف يبني، ولذلك يجب أن نطارد كل فكر انهزامي منحرف، وليكن من بين أهداف هذا الحوار القضاء على لغة العنف لأن العنف هو في حقيقته بديل عن الحوار المفتقد، أو رفض للحوار، أو الحوار بالقوة، وما دمنا جميعاً مصريين، نملك أسهماً في هذا الوطن، سواء كنا داخل مصر أو خارجها، فإن من حق الجميع أن يشارك في هذا الحوار الكبير.


هدف هذا الحوار الاجتماعي في الإطار الواسع الذي كان موضوعاً له أن يبحث ماذا جرى لمشاعر الوطنية التي نشأنا عليها، وما سر ظهور هذه المفردات الجديدة في لغتنا الدارجة، ولذلك كان توجيه الرئيس للدكتور خليفة أنه يتناول الحوار خمسة موضوعات أولها الديمقراطية، ثم المشكلة الإسكانية، وحماية القيم وسيادة القانون، وتنمية الموارد البشرية، والعدالة الاجتماعية، وسيحقق المؤتمر نجاحاً كبيراً إذا توصل إلى تحديد النموذج الديمقراطي الذي يلائمنا بعيداً عن النظريات والمزايدات والاستشهاد بمجتمعات لها ظروف مختلفة في النشأة والتطور وفيها مشاكل تختلف عن طبيعة مشاكل مجتمعنا، فإن من يبحث عن اكتمال الديمقراطية مطالب بالسير في طريق التحرر من الفقر والجهل.. والبحث عن الاستفادة بالطاقات التي تهدر في التجريح والاتهامات المتبادلة وإثارة الأحقاد والشائعات.. ووضع قواعد تترسخ في الضمائر لاحترم الخلافات الفكرية، فالمجتمع الميت فقط هو مجتمع الفكر الواحد، وإذا تلاشيت كل التيارات الفكرية ولم يبق إلا فكر واحد لهذا دليل على وجود خطر على المجتمع.


وهكذا كان الفكر من وراء هذا الحوار أن يكون بحثاً في الفكر والرؤى وطرح بدائل وتصورات لحل المشاكل وتطوير الحياة الاجتماعية بمعناها الواسع الذي يشمل التعليم، والرعاية الصحية والاجتماعية، وإطلاق ملكات الإبداع لأصحاب المواهب، وإثارة حماس الشباب للمشاركة في مشروعات فردية وجماعية لحل مشكلة البطالة ولخدمة المجتمع وتحسين نوعية الحياة في المناطق المحرومة.


ولاشك أن المجتمع المصري قد حقق تقدماً كبيراً منذ عام 1982 حتى الآن في كل المجالات، بحيث يمكن القول أن مصر 96 غير مصر 81 .. فقد كان العمل الذي تم إنجازه خلال هذه الأعوام هائلاً في كل المجالات تقريباً.. وبحيث ظهرت قضايا جديدة ومشاكل مختلفة عما كانت عليه قضايا ومشاكل مصر في عام 82، وهذا التقدم الكبير لا يلغي الحاجة إلى هذا الحوار، بل يؤكدها ويجعلها ضرورية الآن.. لأن أي مجتمع لا يمكن أن يصل إلى نقطة يظن فيها إنه لم يعد في حاجة إلى مراجعة أفكاره وبرامجه وفلسفة العمل وأساليب الأداء كذلك، فإن الفكر الذي توصلنا إليه منذ سنوات قد يكون في حاجة الآن إلى إعادة نظر في ضوء ما حدث في العالم وفي المجتمع.. كذلك فإن القضايا الدائمة مثل الديمقراطية والعنف والمشكلة الاقتصادية وانعكاساتها الاجتماعية والأخلاقية وسيادة قيم سلبية تشكل عائقاً أمام انطلاق المجتمع كل ذلك يحتاج إلى تفكير جديد لتغيير النظرة إليها والبحث عن مداخل جديدة للعمل فيها..


إن مصر خلال السنوات الخمس عشرة الماضية حققت – بالأرقام – إنجازات هائلة لم يكن أحد يتصور أنها قادرة على إنجازها في هذا الوقت القصير، وما تحقق يكاد يدخل في باب المعجزات، وهذا ما يدعو إلى معاودة التفكير في إجراء هذا الحوار الواسع لوضع تصورات للمستقبل في كل مجال من مجالات البناء الاجتماعي والإنساني.. كما أن وجود وزارة تتميز بالديناميكية والقدرة العالية على اقتحام المشاكل والوصول إلى قلب كل مشكلة واتخاذ قرارات شجاعة وحاسمة وجود هذه الوزارة يشجع على المطالبة بإجراء هذا الحوار ونحن مطمئنون إلى إن ما يصل إليه الحوار سوف يكون موضع اهتمام الحكومة.. وإن كنا على وعي بأن تطوير الحياة الاجتماعية لا يتوقف على الحكومة وحدها، ولابد أن تكون اليد الأخرى منها في العمل هي المبادرات والمشاركات الشعبية، وهذا هو جوهر القضية التي ستطرح في الحوار: كيف تثير حماس كل المصريين للعمل للمستقبل، ليشارك كل منهم في تحقيق ما هو مطلوب منه، ولا يبق بيننا مكان للسلبية أو التشكيك أو نوازع التدمير ومن هنا فإن هذا الحوار يجب أن يكون حواراً شعبياً بالدرجة الأولى، ويعتمد في الأساس على الشخصيات ذات الثقل الثقافي والشعبي والهيئات غير الحكومية.. ليكون الحوار حراً دون أي قيود رسمية.. دون تدخلات أو قيود.. وبالتالي يكون صادقاً ومجدياً ويخرج منه كل من يشارك فيه وهو مقتنع بما توصل إليه وراغب – دون طلب – في أن يقدم ما يستطيع لتحويل ما يتوصل إليه إلى واقع.


إن تغيير الواقع الاجتماعي صعب.. لكنه ممكن.. وليكن هذا الحوار هو البداية.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف