عودة إلى اللامعقول!

كان رد الفعل الإسرائيلي على القمة العربية غريباً.. فلم تكن القمة تجمعاً عربياً لاتخاذ موقف عدائي تجاه إسرائيل، بل بالعكس، كانت تجمعاً من أجل توجيه رسالة إلى إسرائيل بأن العرب مصممون على السير في طريق السلام، وأنهم يقابلون مواقف الحكومة الإسرائيلية الجديدة العدوانية تجاه العرب والفلسطينيين بمطالبتها بتنفيذ التزاماتها التي تفرضها عليها الاتفاقات التي وقعتها الحكومة الإسرائيلية بضمان أمريكي.. لكن رد الفعل الإسرائيلي لم يكن منطقياً، وكشف عن طبيعة العقلية التي تحكم إسرائيل التي لا تعترف بالشرعية، ولا بالالتزامات الدولية، ولا بالحقوق المشروعة، ولا بحق الآخرين في الحياة..


كان المنطقي والمعقول أن تكون استجابة الحكومة الإسرائيلية للقمة العربية هي الاستجابة والتجاوب مع ندائها للسلام، والترحيب وإبداء الاستعداد للتعاون مع نداءات السلام التي جاءت بإجماع الأصوات العربية، ولكن الذي حدث هو إن إسرائيل – كما قالت صحافتها – رأت أن مجرد لقاء العرب معاً هو عمل عدائي موجه ضدها، وعمل من أعمال الضغط والحصار، وقالت الصحافة الإسرائيلية إن إسرائيل شعرت أن العرب أصبحوا معاً من جديد، وأصبحت هي وحدها.. وهذا شعور غريب.. لأن العرب اجتمعوا معاً ليطالبوا إسرائيل بالانضمام إليهم في مسيرة سلام تعيد الحقوق لأصحابها وترسي قواعد علاقة صحية وسليمة ليس فيها شعور لدي جانب بأنه مظلوم، أو أن حقوقه مغتصبة، لأن الشعور بالظلم هو الذي يفسد العلاقات على المدى الطويل.. فكيف يكون تجمعاً لمثل هذه الغاية موجهاً ضدها؟.. ولو أنها فكرت بمنطق العقل والحكمة لأدركت أن هذا المؤتمر بدعوته لها هو فرصة تاريخية تحقق لها هدفها الإستراتيجي في أن تصبح دولة من دول المنطقة، وتزيل غربتها، ووحدتها، وتغير من صورتها ككيان عنصري لا حياة لها إلا بالعدوان واغتصاب حقوق الآخرين، وأنها خطر يهدد الوجود العربي في الحاضر والمستقبل.


قمة القاهرة – عندما نتأمل نتائجها بدقة – أعطت حكومة إسرائيل الجديدة الفرصة التي طلبتها ولم تتسرع في اتخاذ قرارات بإدانتها، ولم تتوقف كثيراً عند السياسة التي أعلنتها هذه الحكومة والتي جاهرت فيها بإصرارها على استمرار العدوان والاغتصاب لحقوق العرب.. ولم تفرض شروطاً مسبقة، إلا إذا كان من الممكن اعتبار المطالبة بالالتزام بالشرعية، والقرارات الدولية، والاتفاقات التي أصبح لها صفة الإلزام.. أمراً عدائياً.. وإذا رأت إسرائيل أن مجرد تجمع العرب هو في حد ذاته عمل عدائي ضدها فهذا أغرب ما يمكن أن يقال، لأن العرب أمة واحدة وسيبقون كذلك، والاعتراف بإسرائيل لا يمكن أن يؤدي إلى إنكار طبيعة التكامل العربي، أو التنكر للهوية والروابط الطبيعية التي تربط بين العرب والتي تتأثر بعوامل عابرة ووقتية، لكنها سرعان ما تعود إلى وضعها الطبيعي.. في القمة لم يتجمع العرب إلا لكي يزايلوا خلافاتهم.. ويطرح بعضهم مشروعاً للوحدة.. ويطرح بعضهم الآخر أفكاراً لزيادة التعاون الاقتصادي فيما بينهم.. وليبحثوا في شئونهم الخاصة لضمان تنقية الأجواء فيما بينهم سواء بميثاق شرف عربي، أو بمحكمة عمل عربية.. أو بحماية أرضهم من أن تكون ساحة للإرهاب.. فماذا يمكن اعتباره ضد إسرائيل من هذه القضايا؟!


وتقول الصحف الإسرائيلية أن الرئيس الإسرائيلي عيزرا وأيزمان قلق من الاتجاه المتزايد المعادي لإسرائيل، وإن أعضاء السفارة الإسرائيلية في مصر يعيشون في عزلة، دون أن تدرك أن كل هذا ليس إلا رد فعل طبيعياً لما تعلنه حكومة إسرائيل.. وإلا فهل يتوقع الإسرائيليون أن يزداد حب العرب لهم، وتتوثق علاقتهم بهم، ويستمرون في الهرولة في الوقت الذي حددت فيه حكومة إسرائيل سياستها باستمرار احتلال الجولان، واستمرار المستوطنات في الأرض الفلسطينية، واستمرار الحصار وحرب التجويع على الشعب الفلسطيني، واستمرار العدوان على مشاعر الصداقة، أو الثقة، أو حتى الرغبة في رؤية الوجوه؟.. وهل يمكن أن يؤدي ذلك إلى تغير صورة إسرائيل وإقناع العرب بتخليها عن النزعة العنصرية التوسعية ونواياها في قهر العرب واغتصاب حقوقهم يوماً بعد الآخر.. وإن إسرائيل كدولة لا يمكن الثقة فيها، لأن ما توقع عليه اليوم يمكن أن تنقلب عليه وتتنكر له غداً؟..


ويبدو أن سيادة فكر اللامعقول جعل إسرائيل في غفلة عما جرى في القمة الأوروبية في نفس الوقت الذي انعقدت فيه القمة العربية، وصدرت عنها قرارات لا تختلف في شيء عن قرارات القاهرة..فقد طالب قادة أوروبا إسرائيل بعدم اتخاذ أفعال من شأنها تعريض المباحثات بين العرب وإسرائيل للخطر أو عرقلة عملية السلام في المنطقة، وطالبوا إسرائيل بعدم استبعاد أي قضية من المفاوضات بما فيها قضية القدس، وطالبوها باحترام وتنفيذ الاتفاقات، وبعدم النكوص عما التزمت به في مدريد وأوسلو، وبضرورة استمرار سياستها بالاعتراف بحق تقرير المصير للفلسطينيين، وبمبدأ الأرض مقابل السلام، وطالبوها برفع الحصار عن الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة..


إذا قالت الحكومة الإسرائيلية إن اجتماع القمة العربية في ذاته عمل من أعمال العدوان عليها، وإن قرارات هذه القمة عدوان وفرض شروط وإملاء إرادة ترفضه.. فماذا تقول عن قرارات القمة العربية.. وإذا كان العالم العربي مجتمعاً.. ودول أوروبا مجتمعة.. والإرادة الدولية كما عبرت عن نفسها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ومؤتمرات القمة الإفريقية والإسلامية كلها تلتقي عند ذات الموقف.. فهل العالم كله يتخذ موقفاً عدوانياً تجاه إسرائيل، أو أن إسرائيل هي التي تتخذ موقفاً يتعارض مع العقل والمنطق ومع العدل والقانون..؟


من حق إسرائيل أن تعمل على تفريق العرب وتمزيق وحدتهم، فهذا هدف يحقق لها مصالحها.. ومن حقها أن تعمل بكل الوسائل على أن تنفرد بكل دولة عربية على حدة، وأن تنزع من العرب مصدر قوتهم، وهو وحدتهم، فنحن لا ننتظر منها أن تعمل من أجل مصالح العرب، ونفهم أنها لا يهمها إلا مصلحتها وإن تعارضت مع مصلحة العرب..


ولكن يبقى شيء واحد.. أن هناك حداً أدنى من المنطق والعقل يجب أن يتوقف الطموح الإسرائيلي عنده.. هذا الحد الأدنى يمكن تلخيصه في مبدأ "عش ودع غيرك يعيش" و"أعط الآخر الحق في أن يطلب ما تطلبه أنت" فإن كانت إسرائيل تطلب الأمن لنفسها فهذا حقها بشرط أن تعطي هي الأمن لمن حولها.. وإذا طلبت عدم العدوان عليها فيجب ألا تعتدي هي على الآخرين.. وإذا أرادت "صداقة" العرب فماذا فعلت هي لتقدم الدليل على أنها "صديقة" وليست "عدواً". لابد أن يكون للعرب الحق في أن يقولوا ما تقوله إسرائيل، وأن يفعلوا ما تفعله، وأن يبادلوها سلاماً بسلام وعداء بعداء.. هذا هو المبدأ الأخلاقي، والدولي، والمعقول..


أما أن تطالب إسرائيل بالسلام وتتنكر هي للسلام.. أو أن تعقد اتفاقات عسكرية إستراتيجية وتجعل أرضها ترسانة أسلحة وتتحول من دولة مستوردة للسلاح إلى دولة منتجة ومصدرة للسلاح بكل أنواعه المسموح والمحظور وتريد أن تمنع العرب من أن يحصلوا على أية أسلحة من أي نوع ومن أي مصدر، فهذا هو اللامعقول الذي قد يصلح في علاقات الأفراد إذا فقدوا معايير الصواب والحكمة ولكنه لا يصلح لإقامة علاقات صحيحة وصحية بين دول.. لأن علاقات الدول لكي تدوم لابد أن تقوم على المعقول وعلى العدل.. وبغيرهما فكل شيء مهدد مع الزمن.. وإن وجدت المغالطات التي تفرضها القوة من يرضخ لها اليوم فلابد أن يأتي جيل يتمرد عليها غداً... ولكي يكون لإسرائيل مستقبل لابد أن تتخلى عن غطرسة القوة وتؤسس وجودها في المنطقة على العدل والمنطق والقانون.. وهي الآن في لحظة اختيار.


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف