إسلاميات طه حسين [3-4]
فى كتابات طه حسين تلمس صدق الإيمان وعمق الفهم للقرآن والسنة والتاريخ الإسلامى.كما تلمس رغبة قوية فى تصحيح المفاهيم المغلوطة والمضللة التى تملأ ساحة الفكر الدينى ومن أجل ذلك خاض الكثير من المعارك وخرج منها وقد أصابته سهام الحقد والجهل.
خاض معركة حول نظام الحكم فى الإسلام. كان مؤيدًا للشيخ على عبد الرازق فى رأيه الذى سجله فى كتابه ( أصول الحكم فى الإسلام) وملخصته أن نظام الخلافة ليس نظامًا إسلاميًا أى أنه ليس من مبادىء أو من أصول العقيدة، وقد تلقى الشيخ على عبد الرازق الطعنات التى وصلت إلى حد فصله من وظيفته كقاضى شرعى. ولم يتردد طه حسين فى أن يعلن رأيه بأن نظام الحكم فى الدولة الإسلامية على مر العصور لم يكن نظامًا مصدره الدين، ولم يكن مقررًا بالوحى أو بوصية من الرسول ( صلى الله عليه وسلم )، وإنما كان نظامًا إنسانيًا وتاريخ الخلافة يكشف عن فترات إنحرف فيها هذا النظام عن الالتزام بالدين وارتكبت فيه جرائم وخولفت فيها أحكام الشرعية وارتكب الحكام فيها من المفاسد ما يجعله بعيدًا كل البعد عن الدين، وفى بعض الأحيان كان نظام الخلافة قريبا من نظام الملوك والقياصرة فى أيام الرومان، ولايمكن القياس على فترة خلافة الخلفاء الراشدين للحكم بأن كل الخلفاء كانوا مثهم فى التقوى والصلاح والعدل والسهر على الرعية.
وكان طه حسين معجبًا بالخليفة العادل عمر بن الخطاب ووصفه بأنه (الشديد اللين) وأنه أعظم شخصية يمكن أن يكون قدوة للمسلمين لأنه كان يرى الله فى كل لحظة، ويرى نفسه قائمًا بين يديه يؤدى إليه الحساب عما يفعل وما يقول، وبقدر ماكان شديدًا على الناس كان أكثر شدة على نفس.
كذلك كان معجبًا بالصحابى الجليل عبد الرحمن بن عوف الذى كان بالغ الثراء وتبرع بالكثير من أمواله للمسلمين وفى يوم تصدق بحمل خمسمائه راحلة لاطعام الفقراء وكسوتهم. وكان معجبًا كذلك بالصحابى مصعب بن عمير الفتى المترف الذى ترك الثراء فى مكه وهاجر إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فى المدينة ليعيش فيها حياة الحرمان، وفى يوم بدر كان بطلا لايهاب الموت، وفى يوم أحد كان يحمل لواء النبى صلى الله عليه وسلم ويقاتل فى مقدمة الصفوت فتقطع يده، فيتناول اللواء بيده الأخرى فتقطع أيضا، فيحتفظ باللواء بين عضدية حتى ينفذ الرمح فى صدره فيكون مع الشهداء والصديقين.
***
ومن استعراضه لسيرة الرسول والصحابة يرى أن «العمل» عندهم كان أكثر وأهم من «الكلام» وأن «جوهر الدين» كان أهم من مظاهره، ولهذا كان يبدى دهشته من أن احتفال المسلمين بذكرى مولد الرسول وبالهجرة وغيرها من المناسبات الدينية احتفالات تخرج عن الفهم الصحيح لهذه المناسبات الجليلة، فيحصل الموظفون على إجازة، وتطلق المدافع، ويتبارى الخطباء بالقاء الخطب المكررة فى القوالب المحفوظة الخالية من المضمون، ويتلها المسلمون بالغناء والتمثيل، وكل ذلك مما لايتناس مع حدث تاريخى خطير لم تشهد الإنسانية مثله.إن النبى ( صلى الله عليه وسلم ) هاجر ولم يتكلم، وتلقى أمر ربه فأذعن للأمر دون تردد ولم يشعر بالخوف وهو يمر يجمع الكفار حول بيته ينتظرون اللحظة المناسبة لقتله. وفى المدينة لم تكن أيامه رخاء وصبر هو وأصحابه ثلاثة عشر عامًا على حياة خشنة.
لذلك كان يقول: أيها السادة. احتفلوا بالهجرة فى القلوب والضمائر حتى تجدوا فى قلوبكم رحمة على البائسين، وتجدوا فى ضمائركم نقاء يرتفع بكم عن الصغائر والعداوة.
***
وكان يواجه فتاوى المتشددين الذين ينذرون بالعذاب كل من أخطأ، ويقول: وكيف إذن نفهم القرآن الذى يدعونا أن تسأل الله ألا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطانأ، والحديث ينبئنا بأن الله يتجاوز عن الخطأ والنسيان وما استكره عليه المسلم. والله تعالى يقول لعباده (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا).. وكيف يكفرون مسلما والنبى ( صلى الله عليه وسلم ) قول: «من قال لااله إلا الله فقد عصم نفسه ودمه إلا بحقهما» وهو الذى قال «بعثنا ميسرين لا معسرين» والله يبشرنا بأنه يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر وبأنه سبحانه لم يجعل علينا فى الدين من حرج» وكل ذلك يعنى كما فى الحديث القدس «كلكم خطاءون إلا من رحمته»، فويل لأمة يعاقب الناس فيها على الخطأ. ولا تقدر نعمة الحرية التى اختصى الله بها الإنسان دون سائر مخلوقاته. وأى شر أشد من أخذ الناس بالشبهات والإسلام يأمر المسلمين بأن يدرأوا الحدود بالشبهات.
فاذا اقترف المسلم إنما يؤذى غيره كولى الأمر بواسطة القضاة هو الذى يحاكمه ويعاقبه وليس لأحد آخر من الناس أن ينتزع لنفسه هذا الحق. وإذا كان الأثم لايؤذى أحدًا آخر من الناس أن ينتزع لنفسه هذا الحق. وإذا كان الأثم لايؤذى أحدًا من الناس وإنما يؤذى الإنسان نفسه كأن يضيع حقا من حقوق الله ولايمس حقا من حقوق الناس فأمره إلى الله وحده وليس لأحد من الناس كائنا من كان أن يحاسبه أو يعاقبه وإنما الواجب دعوته إلى الخير بالموعظة الحسنة لأن مابين الإنسان وربه أمره إلى الله وليس إلى البشر.
***
وكان موقف طه حسين من حرية المرأة ومكانتها نابعا من جوهر الإسلام، فهو يرى أن المرأة لها مكانة عالية لأن أجيال المسلمين تولد من احشائها، وتربيتهم متأثرة بها ولهذا يتحدث القرآن إلى أرجل والمرأة بعضهم من بعض، وليس فى القرآن والحديث مايفرض عليها النقاب أو السفور، وإنما فيها حديث عن أصليتن كبيرين هما تربية المرأة وحريتها. لأن الحرية حق فطرى للإنسان.. للذكر والأنثى ، والدين يضع الحدود لحرية كل من الرجل والمرأة ليس لسلب هذه الحرية بل لجعلها نافعة. فالإسلام يفرض العفة على المرأة كما يفرضها على الرجل، وينهى المرأة عن إبداء زينتها إلا ما ظهر منها أى الوجه واليدين، وأباح الإسلام للمرأة أن تخرج من بيتها فتغشى مجالس العلم ومساجد الصلاة وأماكن الرياضة فى غير فتنة ولا فسوق، وحظر الإسلام على المرأة أن تخلو بالأجنبى وحظر ذلك على الرجل أيضا. وللمرأة أن تفعل ماتشاء بشرط ألا يكون فى ذلك إثم أو لغو، وعليها أن تقوم بواجبها نحو نفسها وزوجها وأبنائها وهذا الواجب مفروض على الرجل أيضًا.
وفى الرد على المتشددين والقائلين بما لم يرد فيه نص فى الكتاب والسنة يقول: إذا كان بعض علماء الدين يكتفون بتقليد واحد من الأئمة السابقين خوفا من الذلل وإيثارا للعافية فذلك حقهم ولكنه لايعنى مصادرة حق من تتوافر فيه شروط الاجتهاد فى أن يفكر ويستنبط مايتلاءم مع ظروف الحياة والمجتمع ولا يتعارض مع النص. ويحذر طه حسين من الإسراف فى الخلاف والخصومة وأن تخرج عن حدود حرية الرأى كما حدث فى خلافات بعض أئمة المسلمين فى أمور الفقه والسياسة والكلام وأسرف بعضهم على بعض وكما يذكر ابن حزم فإن الإمام الأشعرى حكم عليه بعض العلماء باهدار دمه على آرائه، وأن أصحاب أبى حنيفة أهدروا نصوص القرآن واضافوا إلى النبى ( صلى الله عليه وسلم ) مالم يقله ليبرروا آراءهم ولهذا نبه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أن هذا الدين متين وطلب من علماء المسلمين أن يوغلوا فيه برفق،فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.