آلام طه حسين (1-2)

من بعيد كان طه حسين يبدو للجميع هادئا وراضيا، ولم يكن كثير الشكوى مثل بعض الناس الذين لا يكفون عن ندب حظهم والبوح بما يعانونه من الآلام.
عندما كان يدرس للدكتوراة فى باريس أصيب بصداع رهيب وآلام شديدة، وكان يقيم مع أسرة سوزان «التى كانت تساعده وصارت زوجته» فعرضوه على الأطباء وبعد الفحوص تبين أن إحدى عينيه أصيبت بالتهاب شديد، وكان هذا غريبا لأنه كان يتصور أن العين التى فقدت وظيفتها ولم تعد تبصر فقدت أيضًا احتمال تعرضها للمرض، وقرر الأطباء استئصال عينه المصابة، وبعد الجراحة كانت الآلام فوق طاقة البشر على الرغم من المسكنات القوية التى كان يتناولها، وكانت لديه قدرة عجيبة على تحمل الألم وكان ذلك مثار تعجب الأطباء!. كان يخفى حقيقة أن أيام الألم فى حياته كانت كثيرة وتركت فى نفسه أثرا عميقا وطبعت حياته بما يميزه من الصلابة والصبر والاستعداد الدائم للتحدى والمقاومة.. وقد أصيب يوما بالحمى وارتفعت درجة حراراته إلى أكثر من أربعين درجة دون أن تنجح الأدوية فى خفضها، وكانت تنتابه فترات من الهذيان يتقاتل فيها مع خصومه، وظلت زوجته - سوزان - أحد عشر يومًا إلى جانبه لا تفارقه فى صحو كامل دون أن يغفل لها جفن، وتصف هذه الأيام الصعبة فى مذكراتها فتقول: لا أعرف كيف استطعت أن أفعل ذلك وأنا الذى كنت أحتاج إلى ساعات أكثر من النوم، وبعد هذه الأيام والليالى المليئة بالألم والقلق نجا طه حسين واسترد عافيته - وكان الأطباء يتوقعون ما هو أسوأ - ولكنه فى اليوم الذى استرد فيه الوعى وبعض العافية بدأ يملى مقالاته لصحيفة «السياسة» التى كان يرأس تحريرها لطفى السيد. وكان طه حسين أيامها يتقاضى ثلاثين جنيها فى الشهر كان فى أشد الحاجة إليها!.
***
تعلق زوجته على أيامها معه بعد فصله من الجامعة فتقول: كانت لنا أيام صعبة، وكنا قد عزمنا على الترفع والاعتذار بأنفسنا فلا نغير شيئا من مظاهر حياتنا الأولى، فقد كان طه مفصولا من الجامعة وعاش ثلاث سنوات بدون راتبه، ولكننا كلما اضطررنا لمعاناة الحرمان فإنه لا ضرورة لأن يعرف أحد غيرنا بذلك!.
***
ومرة أخرى سقط طه حسين فريسة لمرض خطير، كان ذلك فى أكتوبر 1960 وأصيب بمرض فى العمود الفقرى العنقى هدد النخاع الشوكى، ورأى الأطباء ضرورة إجراء عملية جراحية خطيرة قد تؤدى إلى إصابة ساقية بالشلل، ولم يتردد طه حسين فى المخاطرة بإجراء العملية على الرغم من أنه كان وقتها فى السبعين من عمره، وبالفعل كانت هذه العملية انقاذا له من الشلل غير أنه بعدها لم يكن يستطيع استخدام ساقيه استخداما عاديا. كان يمشى بصعوبة، ثم لم يعد قادرا على المشى إلا لمسافة قصيرة، ثم بعد ذلك لم يعد يستطيع السير إلا بخطوات مؤلمة مترددة، وتعيد زوجته عن ألمها وهى تراه فاقد النظر، وشبه مقعد، ويعانى من الضعف مع تقدم العمر وتزايد الآلام، وبسبب ذلك كان مضطرا للتخلى عن كثير مما كان معتادا القيام به. كانت فترة العملية مؤلمة جدا خاصة أن الجراحة كانت بالقرب من الدماغ واستغرقت العملية وقتا طويلا، وكان الذى أجراها هو البروفيسور أوليفيا كرونا أشهر جراحى المخ والأعصاب فى مستشفى الطيران العسكرى فى فرنسا، وفى هذا المستشفى كان يعالج أيضا صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة والوزير السابق.
***
لم يكن الألم لـ طه حسين وحده، فقد كانت زوجته - سوزان - تتألم لألمه، وتتألم لأن الحكومة المصرية لم تفكر فى علاج طه حسين على حسابها كما تفعل مع غيره ممن هم أقل شأنا كبادرة تدل على تقديرها له، وتحمل طه حسين نفقات العملية ونفقات إقامة زوجته معه فى المستشفى كمرافق، والغريب أنه عقب وصوله إلى مصر بعد العملية طلب التليفزيون المصرى إجراء حوار معه، وبالفعل أجاب عن بعض الأسئلة ولم يستطع أن يكمل التسجيل، وبعد إذاعة هذا الحوار كتب على أمين فى الأخبار أن طه حسين لم يكن يتحدث فحسب وإنما كان يتابع النضال. وهكذا لم يكن شىء يمنعه من أداء رسالته ففى عام 1966 كان يعانى من متاعب أشد وطلب منه التليفزيون تسجيل حواره مع اثنى عشر كاتبا وصحفيا كان بينهم عبد الرحمن الشرقاوى ويوسف إدريس وأنيس منصور وثروت أباظة، واستمر اللقاء ثلاث ساعات ازداد عليه التعب حتى أن جامعة باليرم منحته بعد أيام الدكتوراة الفخرية فلم يقدر على الخروج من البيت لتسلمها وجاء السفير لتسلمها ابن فى بيته وتكرر ذلك عندما منحته عدة جامعات الدكتوراة الفخرية كان منها جامعتا مدريد وغرناطة.
***
قضى طه حسين اثنى عشر عاما يعانى من الآلام وعدم القدرة على السير ومع ذلك لم يكن كثير الشكوى، وإنما كان كما تقول زوجته تقبل كل شىء بأريحية، وتصف هذه الأيام بأنها كانت قاسية ومؤلمة لهما معا وكانت مفيدة وجميلة أحيانا وتقول: كنا أكثر قربا أحدنا من الآخر، لم يكن يخرج من البيت إلا للذهاب إلى مجمع اللغة العربية الذى ظل رئيسه حتى آخر يوم فى حياته، وكنت أصطحبه إلى المجمع، وأظل ملازمة له فى البيت ولا أخرج إلا من أجل المشتريات الضرورية.. إنى أستعيد بعد رحيله عذوبة هذه الأيام الكئيبة!.
كان طه حسن يتألم فى كل مرة يسلب منه الموت صديقا من أصدقائه المقربين.. الشيخ مصطفى عبد الرازق وأشقاؤه حسن وحسين وعلى عبد الرازق، وأحمد شوقى وحافظ إبراهيم، وغيرهم كثيرون فى مصر وفرنسا، ويكتب معبرا عن مشاعر الحزن لموت شاعر النيل حافظ إبراهيم. أقضى يومى فى حزن لا طائل من ورائه، ذلك أنه كان أكثر الناس مرحا بيد أن موته يغلفنى بحزن يكاد يكون مبتسما. هناك أناس لا يموتون كليا وخاصة منهم الشعراء. لن استمع أبدا لصوت حافظ إبراهيم لكنى سأستمع دوما إلى روحه وسأراها فى كل مرة أشعر فيها بالفرح أو بالحزن، وهذا ما يعزينى قليلًا.. وهكذا كان يكتب فى رثاء أصدقائه واحدا بعد الآخر ويتألم نحو بيته من زائر بعد الآخر.
وقد حزن حزنا شديدا على موت مختار المثال الذى فقدته مصر وهو فى الثانية والأربعين من عمره، وعندما أعلنت السيدة هدى شعراوى عن مشروعها لإقامة متحف لمختار كان طه حسن أول وأكبر من ساند هذا المشروع بإخلاص عميق.
***
وكان الألم يعصر قلبه لأن فقدانه للبصر جعله غير قادر على رؤية زوجته وابنته أمينة وأبنه مؤنس وأولادهما.. كان يداعب ابنه وابنته وهما صحفيان ويحكى لهما حكايات يؤلفها لهما، وكان يستمتع بالجلوس إلى أحفاده ليلعب معهم ويحكى لهم أيضا. تقول زوجته سوزان: كانت لحظة ألم لنا عندما كانت نظرات الحب له فى عيون الأطفال دون أن يراها، وكانت لحظة مؤلمة عندما تقدمت أمينة عمرها ثلاث سنوات ومدت يدها الصغيرة إليه لتقود أباها وهو يجتاز بهو البيت.. لم يكن أحد فى حاجة لأن يقول للأطفال أنه ضرير، ولم يكن أحد من الأطفال يسأل عن ذلك، ولكنهم كانوا يعلمون ويألمون أيضا!.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف