هدف ... أم وسيلة ..؟!
لا يمكن تصور نجاح حكومة مهما توافرت لديها الإرادة والفاعلية دون أن يكون لديها الإرادة والفاعلية دون أن يكون لديها قيل ذلك إطار فكري يحدد فلسفة العمل، والأهداف التي تريد الوصول إليها، والمبررات الواقعية والمنطقية التي حددت على أساسها مسار عملها واتجاه حركتها.. ينطبق ذلك على كل عمل تقوم به أي حكومة ..لكنه يمثل البداية التي لا غنى عنها أبداً بالنسبة لموضوع الخصخصة بشكل خاص.
وحتى الآن لم يصل الحوار القائم حول الخصخصة إلى اتفاق عام أو إلى "عقد اجتماعي" يحدد: (فلسفة الخصخصة ..) وما الذي يدخل في إطار البيع وما الذي يجب أن يبقى في نطاق الملكية العامة للمجتمع.. لأن الخصخصة لا تعني أن نصبح أعداء للقطاع العام في أي صورة حتى ولو كان ناجحاً ومحققاً لربح.. كما إننا حتى الآن لم نحدد كيف نبيع القطاع العام.. وما الذي نبيعه في البداية وما الذي نبقيه إلى النهاية.. ولا كيف سنبيع: بالمزاد أو بلجان تقدير.. نقداً أو بتحويل القيمة إلى أسهم.. ومن الذي سنبيع له.. أم نبيع ولا يهم من الذي سيشتري.
لا يكفي أن يقال أن هناك لجنة عليا تقوم بعملية التحول والبيع وأن في ذلك الضمان الكافي لسلامة عمليات البيع.. القضية أكبر.. تتعلق بحق الشعب في معرفة فلسفة الحكم في هذه المرحلة بكل وضوح وبالتفصيل، كما لا يكفي أن يقال أن خسائر القطاع العام هي المبرر للبيع والإسراع فيه لأن عملية البيع تشمل شركات رابحة..
هناك مسائل فكرية ونظرية وفلسفية يجب أن تؤخذ بجدية..
وعلى سبيل المثال هناك في البداية مسألة مثل كيف يمكن تقدير ثمن الشركة التي ستباع.. كيف نضمن ألا يكون تقدير الثمن أكبر مما يجب فلا نجد من يشتري.. ولا أقل مما يجب فنقع في مصيدة إهدار ثروة قومية يستحيل تعويضها بعد ذلك.
وفي دراسة حديثة للدكتور سعيد توفيق أستاذ التمويل والاستثمار بتجارة عين شمس تفاصيل فنية تنبه إلى ضرورة إيجاد نموذج لتقدير قيمة كل شركة تقديراً عادلاً، وهو يقدم هذا النموذج وفقاً لمفهوم جديد يقوم على حالة الشركة في الحاضر، والتنبؤ بعائد التشغيل المتوقع فيها في المستقبل، ويقدم معياراً جديداً لا يعتمد على قيمة أصول الشركة سواء بالرجوع إلى الدفاتر أو إلى لجان تقييم ولا على معدل مبيعاتها، ولكنه يعتمد على احتمالات النمو في التدفقات النقدية للشركة ويرى أن هذا المعيار هو الذي يعكس النمو الحقيقي للشركة وبالتالي فإنه هو الذي يحدد ثمن البيع العادل.
وهذه الدراسة كافية للإقناع بأن أهم الخطوات للإصلاح المالي والاقتصادي والإداري لشركات القطاع العام هي تقدير قيمة كل شركة لا كخطوة تمهيدية لبيعها، ولكن بهدف أهم هو قياس الأداء في كل شركة لكي تتحدد أفضل الوسائل للإصلاح في ضوء ظروفها الخاصة.. وبذلك تبدو المسألة أوسع وأكبر من مجرد بيع شركات.. وتصبح مسألة إعادة بناء القطاع العام من الأساس.. وتصبح الخصخصة إحدى الوسائل لتحقيق هذا الهدف، ولا تكون هدفاً وحيداً مقصوداً بذاته.. كما يظهر أهمية الوعي بالأساليب العلمية في التقدير والتنبؤ، ونكتسب القدرة على التعرف على مواضع الخلل والضعف في كل شركة بعد تحليل كل عنصر من العناصر.. وقبل ذلك سوف نكتشف الحقيقة التي مازالت غائبة حتى الآن، وهي أن قيمة الشركة لا يقدرها المحاسبون وحدهم، لأنهم عادة يتأثرون بالجوانب المتعلقة بالإجراءات، ولابد أن يعمل معهم خبراء في التمويل، وإذا كانت الوظيفة المحاسبية هي الغالبة على التفكير المسئولين عن الخصخصة حتى الآن، فإن الوظيفة المالية يجب أن تلقى اهتمامهم لكي نصل إلى تحديد نقاط القوة ونقاط الضعف في كل شركة. ولابد أن نأخذ بجدية ما جاء في دراسة للبنك الأهلى من أن تقييم أصول المشروعات هو أهم المشكلات التي تواجه عملية تطبيق برنامج الخصخصة لعدم وجود قيمة كل شركة قبل اتخاذ البيع.
ويلفت الدكتور سعيد توفيق نظرنا إلى إننا نبدأ بطرح الشركات للبيع قبل أن نضع في اعتبارنا ضرورة وجود مؤسسات مالية لإدارة الأوراق المالية "قبل أن نسرع في البيع، وإذا فكرنا في أن تقوم البنوك بهذا الدور فيجب أن نضع في اعتبارنا أن البنوك ليس لديها الخبرات الكافية لذلك ولم يدخل ذلك في نشاطها من قبل، ولابد من دراسة عن خصائص المستثمرين المرتقبين وقدراتهم المالية ودرجة استعدادهم للمخاطرة لكي يكون تقدير الطلب المتوقع على أسهم الشركات التي ستطرح للبيع وتحديد أسعار هذه الأسهم قائمين على أساس سليم، وهذه الدراسة لها خبراء متخصصون.
ولابد أن نحدد بوضوح ومنذ البداية أولويات البيع.. فما يقال الآن أن أولوية البيع ستكون للمشروعات الصغيرة والمشروعات الخاسرة يحتاج إلى مراجعة، لأن المعيار الصائب هو الفصل بين الشركات التي تتعلق بأهداف إستراتيجية للدولة والشركات غير الإستراتيجية، بصرف النظر عن كون المشروع كبيراً أو صغيراً.. والربح وحده – برغم أهميته – لا يعبر بدقة عن جدوى المشروع أو عدم جدواه، فالشركة التي تحقق أرباحاً دفترية قد تكون غير مجدية اقتصادياً ومالياً، والأرباح قد تكون مجرد أرقام.. وقد يكون الحل الأفضل إدماج بعض الشركات للتحول من الخسارة إلى الربح..
والخلاصة إنه إذا كان الهدف السياسي والاجتماعي والفلسفي هو الإصلاح المالي والاقتصادي والإداري وليس مجرد الخصخصة كهدف مطلوب لذاته.. فلابد أن يكون التفكير أوسع وأشمل من مجرد الخصخصة.. لأن الخصخصة جزء من كل..وسيلة وليست هدفاً.