حتى الأحلام يمكن تحقيقها

عندما زارنا وزير البحث العلمي الأندونيسي مؤخراً لم يكن خافياً في تعليقاته أمران: الأمر الأول اعتزازه بالقفزة الواسعة التي حققتها أندونيسيا في العلوم والتكنولوجيا، وقامت عليها المعجزة الاقتصادية التي جعلت أندونيسيا واحدة من مجموعة النمور الآسيوية بعد أن كانت في آخر قائمة دول العالم الثالث علمياً واقتصادياً، والأمر الثاني الذي لم يستطع الوزير الأندونيسي أن يخفيه هو دهشته من أن مصر لم تحقق نهضة علمية تذكر رغم أنها بدأت في وقت مبكر جداً بالنسبة لبلاده..


وحين تحدث الوزير الأندونيسي عن تجربة بلاده في الارتقاء التكنولوجي بدأ بنموذج العمل في صناعة الطائرات، ليصل إلى أن هذا الارتقاء التكنولوجي في بلاده مر بمراحل أربع، وكانت المرحلة الأولى هي سعي أندونيسيا إلى جمع واستيعاب التكنولوجيا المعروفة.. لم تبحث عن الأسرار المعقدة أو التكنولوجيا الراقية التي تخفي الدول المتقدمة أسرارها وتحتاج إلى درجات عالية من التخصص لفك أسرارها.. في هذه المرحلة كان الهدف: يكفينا أن نستوعب ما هو متاح للجميع في كل أنحاء العالم واستيعابه، وحين نصل في هذا الطريق إلى منتهاه سنصل إلى مرحلة السيطرة على هذه التكنولوجيا ونكون مستعدين للانتقال لما هو بعدها، ولم يكن ذلك صعباً لأن هذا المطلب المتواضع يسهل تحقيقه وهو متاح في السوق العالمية لكل من يريد أن يتعلم.


ثم كان القرار الأندونيسي باستيعاب الأفضل والأرقى من السلع وما وراءها من تكنولوجيا إنتاجها.. وكان الشعار في هذه المرحلة: فلنبدأ بمعرفة وإنتاج ما انتهى إليه الآخرون.. ولم يكن ذلك سهلاً بالطبع. ولكن أندونيسيا سارت على الطريق الصحيح.. عقدت تحالفات مع أصحاب هذه التكنولوجيات، وخاصة في مجالات الصناعة الإستراتيجية مثل النقل الجوي والبري والبحري والاتصالات، وتوليد الطاقة، والآلات الزراعية، والقوى المحركة، ومعدات الإنتاج الثقيلة، ومنظومات الدفاع المتطورة.. الخ. وقدمت كل التسهيلات لجذب الاستثمار الأجنبي، بما في ذلك الحوافز والحماية.. وحققت الهدف من هذه المرحلة وهو السيطرة على تكنولوجيات العالم الصناعي المتقدم من خلال التعامل والتفاعل معها عن قرب على الأرض الأندونيسية، وتكامل إعداد جيل من أبناء البلد يستطيع أن يتعامل مع هذه التكنولوجيات.


في هذه المرحلة أعطت الدولة لوزارة البحث العلمي دوراً بارزاً بالإضافة إلى الدعمين السياسي والمالي.


وعلى سبيل المثال تم التعاقد في هذه المرحلة مع شركة أسبانية لصناعة الطائرات المدنية الصغيرة لتصنيع طائراتها في أندونيسيا.. ومن خلال التعامل مع هذه الشركة أمكن للاندونيسيين معرفة دقائق التصميم والتصنيع في كل جزئية منها، وبدأ تصنيع هذه الطائرات بخامات وخبرة أسبانية بنسبة 100% في عام 1975، أصبحت 50% منها خامات وخبرة أندونيسية عام 1981 ثم أصبح تصنيع هذه الطائرة يتم على أيدي الخبراء والعمال الاندونيسيين بنسبة 100% في عام 1987.


لم تكن هذه المرحلة مرحلة الاختراع والإبداع.. ولكنها كانت مرحلة المعرفة والتعلم والاقتراب والاحتكاك والممارسة.. ليس في الصناعة فقط، ولكن في كل المجالات المتصلة بها من المعرفة التكنولوجية، وإدارة العمليات الإنتاجية، والتعامل مع مستلزمات المنافسة في الأسواق العالمية.


وبعدها جاءت المرحلة الثانية وفيها تحقق التقدم خطوة في ميدان البحث العلمي، واكتساب الثقة في الاعتماد على النفس في تصميم وإنتاج سلعة فيها بعض التطوير والتجديد بالتعاون مع الخبرة الأجنبية من فرنسا وألمانيا وهولندا دون حساسيات ولا مخاوف، وفي نهاية هذه المرحلة أصبحت لأندونيسيا القدرة على البحث العلمي وإنتاج وتطوير التكنولوجيا وانتقلت إلى مرحلة أخرى.


في المرحلة الثالثة استطاعت أندونيسيا ابتكار نوعيات جديدة من السلع مستعينة بتراكم المعرفة والخبرة الذي تحقق في المؤسسة العلمية والمؤسسة الصناعية.. في هذه المرحلة وجدت أندونيسيا في نفسها القدرة على دخول السوق العالمية إلى جانب السلع الحديثة التي ينتجها الآخرون، وفي هذه المرحلة وضعت أندونيسيا ضمن أهدافها بناء طائرة ركاب كبيرة وجديدة في تصميمها وإدخال تطوير في تكنولوجيا أجهزة القيادة والتحكم ووسائل الأمان والملاحة.. بحيث تكون هذه الطائرة منافسة لمثيلاتها بميزة تنفرد بها هي قدرتها على الطيران لمسافات طويلة وعدم الحاجة إلى مطارات ذات مدارج طويلة.. وتحقق الهدف في موعده المحدد في منتصف عام 1995، وظهرت هذه الطائرة الجديدة إلى مجال الاستخدام التجاري في مناسبة اليوبيل الذهبي لاستقلال البلاد في أغسطس 1995 وهي تصميم وإنتاج وطني 100%.


بعدها انتقلت أندونيسيا إلى المرحلة الرابعة – وفقاً للتخطيط الموضوع – وهي مرحلة البحث في أساسيات العلم والتكنولوجيا المتقدمة، بالدخول جنباً إلى جنب مع دول العالم الأول في مجالات العلوم والتكنولوجيا الحديثة.. وضمن الأهداف أيضاً الوصول في عام 2006 إلى إنتاج طائرة جديدة بالغة التطور للاستخدام التجاري ويتزامن معها ظهور قمر صناعي من تصميم وإنتاج العلماء والفنيين والاندونيسيين بالتعاون مع بعض العلماء الأجانب.


هكذا بدأت اندونيسيا: خططاً مرحلية، لكل منها توقيت وهدف، في إطار هدف إنها ستقفز من الصفر إلى منتهى الكمال.. ولكنها بدأت بهدف الفهم والتعلم والتعامل مع العلم والخبرة الأجنبية.. وها هي تعمل الآن على الوصول في عام 2018 إلى أن تكون واحدة من دول العالم الأول.. واحدة من الدول التي تحقق اختراعاتها طفرات في العلم والإنتاج الصناعي الدقيق.


ونحن لسنا أقل من اندونيسيا.. فلدينا علماء وفنيون يمكن حشدهم لبدء رحلة انطلاق، لا ينقصنا إلا الهدف.. والقرار.. وتوفير الإمكانات.. وربط كل ذلك بالسياسة العليا للدولة ..ولا بأس من البدء باستيراد التكنولوجيا الأجنبية.. والاستعانة بالعلماء الأجانب ..طلب المشاركة .. وبعد استيعاب ما في العصر سيكون الاستقلال العلمي والصناعي ممكناً.. وسيكون الاعتماد على النفس ثم المنافسة ممكناً.. والمهم أن ندرك أن الانتقال من القاع إلى القمة لا يتم بقفزة واحدة.. ولا يتم بمجرد تردد الأمنيات والعيش في أحلام اليقظة، حتى الأحلام يمكن تحقيقها في اليقظة.. بالتخطيط .. والعمل.. وهما أكثر تأثيراً من السحر.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف