رؤية مستقبلية ...!

من الدلالات المبشرة أن الحكومة الجديدة مهتمة بالإعداد للمستقبل، بعد أن كانت الحكومات السابقة منكفئة على مواجهة مشاكل الحاضر وحده.. ولعل وجود الدكتور الجنزوري على رأس الحكومة، وهو أصلاً رجل تخطيط ومدرك – بحكم الدراسة والتجربة – إننا إذا لم نحسن الإعداد للمستقبل فلن يكون لنا فيه مكان.. ومن حسن الحظ أيضاً أنه – بحكم تكوينه – يعرف جيداً أن العلم والتكنولوجيا هما مستقبل مصر، وأن نجاح الحكومة ليس في استيراد التكنولوجيا الحديثة، أو الحصول على أحدث النتائج العلمية من مراكز البحث العالمية، ولكن النجاح أن نوجد مناخ البحث العلمي في مصر، وأن نعيد بناء مراكز البحث العلمي بجرأة لتكون قادرة على التعامل مع المستقبل.


ولأول مرة أعدت وزارة البحث العلمي دراسة متكاملة عن الرؤية المستقبلية للبحث العلمي في مصر، تفرغت لها الوزيرة المتميزة، الدكتورة فينيس كامل، وقادت مجموعة من أكبر العلماء والمتخصصين المصريين، انتهت فيها إلى أن المشكلة الرئيسية هي ضعف القدرة التكنولوجية من جانبين، من جانب موارد التكنولوجيا، ومن جانب مستخدمي التكنولوجيا، وأن معظم مؤسسات الإنتاج غير قادرة حتى الآن على تحديد متطلباتها من التطوير التكنولوجي، وغير قادرة على المشاركة في هذا التطوير.. والأهم من ذلك أن مصر حتى الآن لم تضع سياسة، وإستراتيجية قومية واضحة للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي، رغم وجود وزارة للبحث العلمي منذ سنوات، ووجود أكاديمية البحث العلمي، لكن مثل هذه الإستراتيجية وإن كان وضعها يدخل في اختصاص أهل البحث العلمي، إلا أنها أولاً وأخيراً قرار سياسي لابد أن يبدأ وينتهي من مجلس الوزراء، ولابد أن تشارك في إعداد هذه الإستراتيجية وتتحمل مسئولية تنفيذها كل الوزارات، ولا يمنع ذلك ضرورة وجود جهة مركزية واحدة تتجمع لديها المقدرة، والسلطة، والإمكانات، وإذا قلنا أن لدينا وزارة للبحث العلمي .. سواء من حيث الموارد المالية.. فليست لدينا مخصصات للبحث العلمي في كل شركة وكل مؤسسة وكل وزارة كما يحدث في دول العالم الأخرى، وليست لدينا تجهيزات كافية، ومراكز البحث العلمي عندنا مكبلة باللوائح والتعقيدات البيروقراطية التي تقتل الرغبة والقدرة على الإبداع، ومراكز البحث العلمي عندنا لا تخرج في أبحاثها عن دائرة واحدة تدور فيها، وهي أعداد البحوث الأساسية، دون أن ترتبط بأي صورة بالمشاكل التطبيقية الحقيقية التي تعاني منها الوحدات الإنتاجية، فليست هناك صلة تنظيمية بين مراكز البحث العلمي والمصانع في القطاعين العام والخاص.. أو بشركات إنتاج الأدوية والكيماويات .. أو غيرها.. والغريب أن هذه المصانع والشركات تتعامل مع أبحاث علمية تدفع الكثير للحصول عليها من الخارج.


تشير الدراسة المهمة عن منظومة البحث العلمي في مصر إلى ضرورة وضع سياسة جديدة للعلم والتكنولوجيا، وربطها بسياسة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما تشير إلى قضية أخرى تحتاج إلى جرأة.. وهي أوضاع مراكز البحث العلمي عندنا.. من حيث التنظيم، والإمكانات والتمويل وضرورة توحيد جهة الإشراف عليها، والتنسيق بينها.. فلدينا مراكز كثيرة جداً.. كل منها دولة مستقلة.. بعضها يتبع وزارة البحث العلمي.. وأكثرها ليس لوزارة البحث العلمي دخل به من بعيد أو قريب.. وإنما تشرف عليها وزارات أخرى مفروض أن لها أهدافاً تنفيذية، وإن كانت تحتاج بالطبع إلى إجراء أبحاث ودراسات لتطوير عملها، فليس معنى ذلك أن تستقل بالإشراف على هذه المراكز، والأفضل أن تكون كل مراكز البحث العلمي تابعة لإشراف جهة واحدة.. مسئولة عن التنسيق بينها، وضمان عدم تكرار الجهد وتحقيق التكامل بين إمكاناتها بدلاً من أن تنفق كل منها في شراء نفس الأجهزة التي تشتريها غيرها.


تشير الدراسة أيضاً إلى أنه ليس هناك أهداف كمية للتنمية التكنولوجية في مصر، فلو أننا حددنا أمام مؤسسات الإنتاج والبحث العلمي هدفاً محدداً وليكن على سبيل المثال زيادة الصادرات إلى 30 مليار دولار خلال 10 سنوات، فإن ذلك سيدفع هذه المؤسسات إلى إعداد خطط وبرامج للوصول إلى هذا الهدف، ويكون الحساب معها على أساس مدى ما حققته للوصول إلى هذا الهدف، ويكون الحساب معها على أساس مدى ما حققته للوصول إلى الهدف، والخطأ الجوهري عندنا أننا لم نتنبه بدرجة كافية إلى أهمية مشاركة مراكز البحث العلمي في خدمة تطوير إنتاج القطاع الخاص، ما دمنا نعمل على نقل المجتمع نحو اقتصاد السوق، ونضع القطاع الخاص في مكان المسئولية عن قيادة التنمية وزيادة التصدير وفتح مجالات العمل وغزو أسواق جديدة، فلابد أن نقدم له المساعدات الفنية والعلمية لكي يدخل في المنافسة الضارية مع إنتاج الدول الأخرى، ومن جانب آخر لابد أن يسهم القطاع الخاص في تمويل الأبحاث العلمية، وهي بطبيعتها تحتاج إلى تمويل كبير، وفي كل دول العالم تخصص الشركات الكبرى والصغرى جانباً من ميزانياتها للبحث العلمي الذي تقوم به بنفسها أو تقوم لها به مراكز البحث العلمي وتتحمل هي تكلفتها.


إن الرؤية المستقبلية لمصر مرتبطة بالعالم العربي بكل تأكيد، ولذلك فإن بناء قاعدة تكنولوجية واسعة، وتطوير مراكز البحث العلمي لتسهم في تطوير الإنتاج الصناعي، وحل المشاكل الأساسية للمجتمع باستخدام العلم والتكنولوجيا، وعلى رأسها مشاكل: البطالة، والتصدير، والخصخصة وتطوير قطاع الأعمال العام، وتحسين البيئة، ورفع المستوى الصحي، وتنظيم الأسرة، وحماية المياه وضمان سلامة الغذاء، وتنمية الصحاري، واستغلال الثروات الطبيعية الاستغلال الأمثل، وحماية الشواطئ، وتطوير البنية الأساسية.. كل هذه المجالات الحيوية يمكن العمل فيها لخدمة احتياجات مصر والدول العربية معاً إذا نجحنا في إيجاد صبغة للتنسيق والتكامل في عمل مراكز البحث العلمي في مصر والبلاد العربية.. وصيغة للتعاون والتكامل في التمويل اللازم لتحقيق النهضة العلمية المصرية – العربية.


لا يمكن لشعب أن يكتفي بالعمل ليومه.. بل لابد أن يفكر ويخطط ويعمل لغده.. ولا يمكن أن يكون ذلك بغير التفكير والبحث العلمي.. ومن هنا نقول إن أوضاع البحث العلمي في مصر تحتاج إلى وقفة، وجرأة، وإعادة نظر.. وتحتاج في الأساس إلى قرارات للتغير الجذري.. لم تعد صعبة كما كانت.. بعد أن بدأت الحكومة الجديدة في اقتحام المشاكل الصعبة والمزمنة.. وأظهرت جدية في الانشغال بالمستقبل.


 


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف