ن بين عشرات الندوات التي عقدت في القاهرة في الأسبوع الماضي كانت أهم ندوة على الإطلاق بعنوان "المراهقون بين الخطر والأمان" نظمتها جمعية أحباء الطفولة وقدمت لها أستاذة معروفة في الدراسات النفسية والاجتماعية هي الدكتور سعاد بهادر وشارك فيها عدد كبير من قيادات الوزارات والمفكرين والباحثين وأساتذة الجامعات، أجمعوا على أن رعاية الشباب المصري – في مرحلة المراهقة بالذات – تحتاج إلى فلسفة جديدة.

وإن كان من المسلمات أن مرحلة المراهقة ذاتها تعتبر أزمة يمر بها الشباب.. يعاني فيها صراعات متعددة .. كما يعاني القلق والتوتر .. ويعيش مشكلة الانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب الناضج.. يحاول أن يؤكد ذاته بالحق وبالباطل.. ويسعى إلى البحث لنفسه عن دور يرضى فيه الشعور بالأهمية والتفوق.. وبأنه يستحق مكاناً في الزحام في عام الكبار.. ومن البديهيات أيضاً أن المجتمع المصري ذاته يمر هو الآخر بمرحلة انتقال كبرى يتحول فيها من النظام السياسي الشمولي إلى التعددية السياسية، ومن سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج والاستهلاك إلى اقتصاد السوق، ومن احتكار قلة لمراكز السلطة إلى توسيع دائرة صنع القرار والمشاركة الشعبية.. شباب حائر وقلق في مجتمع هو ذاته يعاني القلق نتيجة الانتقال من حال إلى حال.. وهذا يعني أن الشباب – في مرحلة المراهقة الخطيرة – يحتاجون إلى جهود مضاعفة لإنقاذهم من الوقوع في براثن الانحراف.

وصور الانحراف التي تتربص بالشباب المصري كثيرة.. أخطرها جماعات الإرهاب، وإدمان المخدرات، وعصابات الجرائم المنظمة.. وهي وحوش متربصة ومستعدة.. وتستخدم أساليب شيطانية للإيقاع بالشباب في براثنها دون أن يدري أنه يسير في طريق الانحراف.. بعد أن تفقده الوعي والقدرة على التمييز.. وتزين له أن هذا الانحراف هو في طاعة الله. أو لإنقاذ الوطن.. أو لتحقيق مثل عليا.. مستغلة في ذلك انجذاب المراهقين في هذه المرحلة إلى المثل العليا والقيم السامية ومن السهل انقيادهم وخداعهم بالظاهر البراق وهم مازالوا في مرحلة لا يستطيعون فيها التعمق للوصول إلى الحقيقة البشعة التي تتخفى وراء الشعارات والأقنعة.

وظاهرة الإرهاب دليل على أن هناك قطاعاً من المراهقين لم يجد الحماية النفسية والفكرية، ولم نقدم له التحصين اللازم في الوقت المناسب، قبل أن تسبقنا هذه العصابات المنظمة بأساليبها الخادعة في غسيل المخ.. والتأثير على الشخصية.. وتضليل العقول.. والسيطرة على الوعي.. وهي دليل على أن المؤسسات المسئولة عن التنشئة والتربية والرعاية لم تقم بدورها كاملاً.. وفي نفس الوقت فإن الانفتاح الإعلامي والثقافي في عالم اليوم جعل الشباب يعايش قيم مجتمعات أخرى ويتأثر بها ويحاول تقليدها.. بالإضافة إلى تزايد العنف والجنس والجريمة في برامج التليفزيون التي أصبحت موضع شكوى في العالم كله حتى أن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وجه منذ شهور نداء بتخفيف جرعاتها بعد أن ثبت مسئوليتها عن تزايد العنف والانحراف في المجتمع الأمريكي.. وما من مجرم إلا واعترف بأن التليفزيون كان مدرسته الأولى التي تعلم فيها دقائق وأسرار ارتكاب الجرائم.. وهذا موضوع واسع تناولته آلاف الأبحاث والكتب بكل اللغات حتى أصبح موضع اتفاق عالمي.

وربما كانت أهم النقاط التي ركزت عليها ندوة جمعية أحباء الطفولة هي الإشارة إلى "صراع القيم" في المجتمع المصري، وحيرة الشباب بين دعاة الانفتاح ودعاة الانغلاق.. بين أنصار التقدم وأنصار الجمود والتخلف.. بين الدعاة إلى الإسلام بمفهومه السليم المعتدل والدعاة إليه بمفاهيم مزيفة ومعتلة.. بين المخلصين للإسلام وأعدائه الذين يتخفون في ثوبه ويرفعون كتابه ويقولون كلمة حق يراد بها باطل.. بين من يسعون إلى ترشيد الخطى والراغبين في إشعال النار وتهييج المشاعر.. وهذا كله يحتاج إلى فرز لدعم الاتجاه الصحيح وكشف الاتجاه الزائف.

ولفت النظر في هذه الندوة إن المراهقين أنفسهم شاركوا فيها وقالوا ما ليدهم، وأهم ما قالوه أنهم لا يجدون من يستمع إليهم، ويفتح صدره لهم، ويعطيهم من وقته وصبره وتعاطفه ما يشجعهم على البوح بما في ضمائرهم القلقة، ونفوسهم المتعبة، ويساعدهم على التغلب على المشاكل الصغيرة التي تواجههم ولكنها بالتجاهل تصبح مشاكل كبيرة يعجزون عن التعامل معها، إلى أن يجدوا أنفسهم وقد وقعوا في شباك الجماعات المنحرفة التي تبدأ معهم بالقلب المفتوح.. وبالتعاطف.. والتفهم.. وبتقديم مساعدات صغيرة ولكن لها أهمية لدى الشباب الحائر.. وقال المراهقون: إن البيت فقد الدفء وحرارة المشاعر مع انشغال الأب والأم في البحث عن لقمة العيش.. وإن الاشتراك في ناد يرعى أعضاءه أصبح حلماً عزيز المنال.. وإن مجالات رعاية الموهبة.. أو توجيه الحائر.. أو إدماج الشباب في نشاط يمتص طاقته الزائدة.. كل ذلك أصبح مجرد كلام يقال.. وصوراً في التليفزيون.. وما هو قائم في الواقع أقل بكثير.. إذن فأين يذهب المراهقون وهم في عنفوان القوة والفتوة.. ولديهم طاقة هائلة إذا لم توجه في الخبر فمن المحتمل أن تجد من يوجهها للتخريب والهدم..

المراهقون طاقة كبرى.. لماذا لا نوجهها لبناء شخصياتهم .. وبناء المجتمع.. ولو كانت هناك مشروعات كبرى للخدمة العامة.. مثل استصلاح مناطق صحراوية مجددة تسمى "مزارع الشباب" يقضي فيها كل شباب عدة أسابيع يتعايش خلالها مع أقرانه تحت توجيه تربوي منظم ويشعر أنه عضو نافع ومنتج في المجتمع وأنه يشارك في البناء بالعرق والعمل وليس بالغناء وحده.. ولو كانت هناك مشروعات لإعادة بناء القرية بالمتطوعين من الشباب وشق الطريق والمصاريف.. وتنفيذ مشروع قومي لنظافة المدن.. ومحو الأمية.. وهناك عشرات المشروعات القومية الكبرى يمكن أن تمتص طاقة الشباب وتحولها إلى طاقة بناء.

ولابد أن نعترف أن مراكز البحث الاجتماعي في مصر لم تقم بدورها حتى الآن، وأن الأبحاث التي قدمتها لم تكن ذات طبيعة عملية ولم تضع أيدينا على أصل المشكلة وكيفية العلاج..

كما لابد أن نعترف أن الشباب له كل الحق في شكواه من أنه لا يجد من يفتح له قلبه ويستمع إليه، ولا يجد مجالات العمل والمشاركة التي تشعره بأهميته في المجتمع. ولابد أن نعتذر.. ونصحح الخطأ فوراً.