نظرية جديدة للسلام
كانت فكرة عقد قمة صانعي السلام فكرة عبقرية، لأنها جاءت في وقت حرج، وصلت فيه مواقف جميع الأطراف إلى حافة الهاوية، ولم يكن ممكناً إنقاذ السلام بأية وسيلة من الوسائل السابقة.. قمة محدودة.. أو مبعوث يقوم برحلة مكوكية.. أو ببيانات تناشد الأطراف ضبط النفس والتمسك بخيار السلام.. لم يكن ذلك كله ممكناً لأن إسرائيل أحست أنها في خطر، واتخذت إجراءات لتفادي الخطر فجعلت الفلسطينيين في خطر، وأصبحت المنطقة كلها في خطر، وكان لابد من قمة لم يحدث لها مثيل، تنزع الفتيل، وتعيد الثقة إلى كل الأطراف في جدية وجدوى عملية السلام، وتضع ضوابط وضمانات لهذه الثقة.
وقبل انعقاد المؤتمر تصاعدت في إسرائيل اللهجة العدوانية بصورة تدعو للقلق، اشتدت إجراءات الحصار الاقتصادي على الفلسطينيين إلى حد التجويع، وازداد الضغط عليهم إلى درجة حظر الانتقال، ومنعت إسرائيل عنهم استيراد احتياجاتهم من الغذاء، كما منعت تصدير منتجاتهم، أي أن الفلسطينيين جميعاً أصبحوا في موقف الأسرى في يد الدولة الإسرائيلية، ثم ازداد الخطر حين عادت قوات الاحتلال الإسرائيلي لاقتحام مناطق الحكم الذاتي وفي مثل هذا الجو لم يكن ممكناً الحديث عن السلام، ولا مطالبة الفلسطينيين بشيء، وقدمت إسرائيل للتيار الفلسطيني المتطرف المناخ الملائم للبقاء والنمو، وأعطته المبرر للقيام بعملياته الإرهابية، لأنها حققت له ما كان يردده من أن السلام الذي تحقق ليس إلا خدعة ووهماً، ما دامت إسرائيل قادرة على تفويضه والتراجع عنه في لحظة بقرار منفرد منها مهما تكن الظروف.
ولا شك أن ظروف المجتمع الإسرائيلي تجعله أقرب إلى التوجس والعدوانية، والخلافات بين القوى السياسية المتصارعة تجعل الغلبة دائماً للجناح الأكثر تشدداً، خاصة مع اقتراب الانتخابات المبكرة في مايو القادم، ولكن يبقى في النهاية أن أوضاع الفلسطينيين وأمنهم واستقرارهم سيظل دائماً في مهب الريح وهنا بتوافق أو تصارع القوى السياسية داخل إسرائيل، ويبقى أن ما توقعه إسرائيل من اتفاقات وما تقبله من التزامات يمكن أن تنفذه في لحظة ثم تسحبه في لحظة أخرى، وهذا شيء خطير جداً إذا ما كان متعلقاً بقضية الحرية والسلام.
قبل مؤتمر قمة صانعي السلام كانت القوى المتطرفة هي صاحبة الصوت الأعلى.. حماس والجهاد في جانب.. واليمين الإسرائيلي والجماعات اليهودية المتطرفة المعادية للعرب وللسلام، وعبر عن مواقف هذه الأطراف زعيم كتلة الليكود بنيامين نتنياهو في حديث أخير لمجلة "نيوزويك" الأمريكية قال فيه أنه يجب أن تظل مسئولية حماية الإسرائيليين في أراضي الحكم الذاتي بيد إسرائيل مما يعني أن تعطي قوات الأمن الإسرائيلية وقوات الجيش الإسرائيلي نفسها حق اقتحام الأراضي الفلسطينية الخاضعة للحكم الذاتي في أي وقت.. وقال في هذا الحديث أيضاً.. إن الجولان يجب أن تبقى تحت الاحتلال الإسرائيلي لأن إعادتها إلى سوريا تعزز الخيار العسكري لسوريا.
مثل هذا التطرف والعداء للسلام على الجانب الإسرائيلي، يعطي وقوداً إضافياً للتطرف على الجانب الفلسطيني، الذي تزايد فيه الشعور بالخطر وفقدان الأمن بعد أن تفشى فيه الجوع والبطالة.
لذلك جاءت قمة صانعي السلام لكي تعيد مفهوم السلام إلى الإطار الصحيح، وتعزله عن آثار الضغوط التي مارسها المتطرفون وأعداء السلام على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي على السواء.
والذين قالوا قبل انعقاد المؤتمر إنه مظاهرة سياسية كبرى لإعادة الطمأنينة إلى إسرائيل أدركوا بعد انعقاده خطأ تصورهم، لأنه كان مؤتمر عمل، وقد رأينا كيف أن كل القادة كانوا يطرحون أفكاراً ومبادرات لضمان استمرار عملية السلام والقضاء على الإرهاب بالقضاء على المناخ الذي أدى إلى نموه، وقد وضعوا أيديهم بصراحة ولأول مرة على الأسباب الحقيقية.
وأعلنوا أن السلام لا يتحقق بأن يخرج طرف منتصر ويخرج الطرف الآخر مهزوماً، لأن الهزيمة والقهر يدعوان إلى اليأس، واليأس دافع لأصحابه ليسلكوا سلوك اليائسين، ولذلك يجب ألا ندفع الفلسطينيين إلى الشعور باليأس أو الإحساس بالظلم، وقالوا أن السلطة الفلسطينية أصبحت في مأزق يستحيل عليها فيه تحقيق دورها.. فإسرائيل تضغط عليها، وتحرم الشعب الفلسطيني من ضرورات الحياة.. والدول الكبرى المانحة لم تقدم المساعدات التي وعدت بها كاملة إلى حد أن السلطة الفلسطينية لم تعد قادرة على دفع رواتب الموظفين بانتظام.. وقالوا أن السلام لكي يدوم لابد أن يقوم على العدل، وبدون العدل لا يكون السلام سلاماً حقيقياً، لذلك كان جديداً أن يعلن كلينتون اقتناع أمريكا بهذا المبدأ، وكان جديداً أيضاً أن يعلن بيريز قبوله لمبدأ مقايضة السلام بالأرض، وقوله صراحة أن إسرائيل ترى أن الأمن أهم من الاحتفاظ بالأراضي، على عكس ما كان يقال طوال السنين الماضية، حين كانت مصر تطرح مبدأ السلام والأمن لإسرائيل مقابل إعادة أرض العرب للعرب، فيعلن الإسرائيليون أن السلام ليس له مقابل للعرب إلا السلام، وأن إسرائيل ستحتفظ بالسلام والأرض معاً، وكان هذا معناه أن التطرف يحكم المواقف الإسرائيلية، وبالتالي فإن التطرف الفلسطيني سيكون رد الفعل التلقائي الذي لا يمكن تفاديه.
أعتقد أن أعظم ما حققه هذا المؤتمر أنه أعاد ميزان العدل إلى الاعتدال، ووضع حقوق إسرائيل وحقوق الفلسطينيين في موضعهما الصحيح، وقرر محاربة الإرهاب على الجانبين دون تفرقة، وأرسى مبدأ سيكولوجيا مهماً، هو إذا كانت إسرائيل تريد أن تكون مقبولة من العرب فلابد أن يكون الوجود الفلسطيني مقبولاً منها، لابد من التعامل مع واقع جديد بمفاهيم جديدة وعقلية جديدة.. لأنه لا يصلح إقامة السلام بمفاهيم مرحلة الحرب، ولا يمكن أن تعطي إسرائيل نفسها حق قتل وسجن وتجويع الآخرين ثم تطلب منهم أن يحبوها ويحرصوا على أمنها وسلامتها.. لابد من أن تعتدل كفتا الميزان، ما يعطيه كحق للطرف الآخر.. بذلك يمكن أن تصبح إسرائيل دولة من دول المنطقة، وتطمئن إلى استمرار أمنها، لأن التاريخ لم يذكر دولة قامت على السيطرة والقمع والتفوق واستمرت في البقاء، فقيام الدول له عوامل وشروط لا يمكن أن تقوم بغيرها، ولقد نجح المؤتمر – فيما أعتقد – في أن يضع الأساس الوحيد الذي تستطيع إسرائيل أن تجد به الأمن والاستمرار وهو: العدل.. نفس المبدأ الذي أعلنه الرئيس الراحل أنور السادات في الكنيست عام 1977 وظل الرئيس مبارك يعمل دون كلل لكي تقتنع إسرائيل به ونظرية السلام المصرية اكتسبت الآن قيمة دولية هائلة بإقرار زعماء العالم لها في المؤتمر، وهي نظرية صالحة للتطبيق في كل مناطق التوتر في العالم ليعيش البشر عصراً جديداً مع القرن القادم.